اليوم فى ذكرى مئوية ميلاد «محيى الدين» فتحت ابنته «سميحة» قلبها لـ«الوطن» وروت لنا عن الجانب الإنسانى لوالدها وطبيعة علاقته بأسرته ومحبيه ورفاقه وحتى خصومه، مؤكدة أنه رغم علم الجميع أن والدها أفنى حياته فى الدفاع عن مصالح الناس وفى النضال السياسى، فإنه لم يتخلَّ يوماً عن واجبه الإنسانى تجاه زوجته وابنه وابنته.
وتقول «سميحة» أو «بوسى» كما كان يناديها والدها، فى حوارها لـ«الوطن»، إن «محيى الدين» الأب كان دمث الخلق، يحمل داخله سلاماً نفسياً غير مسبوق، كان شاباً ثائراً وضابطاً وطنياً وربَّ أسرة مثالياً وسياسياً مخضرماً، ومواطناً خدوماً لبلده.. وإلى نص الحوار:
حدِّثينا عن خالد محيى الدين الأب وعلاقته بمختلف أفراد الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة.
– كان أباً جميلاً و«حنين»، رغم أنه كان مشغولاً طول الوقت أثناء طفولتى وشبابى، ووالدتى كانت تتولى أمورنا كلها فيما يتعلق بالمدارس والمذاكرة، وبعد سفره عام 1953 إلى جنيف، وكنت أمر بظرف خاص وقتها، فعندما كنت فى عمر الـ10 شهور أصبت بشلل الأطفال وحينها لم يظهر تطعيم بعد، فأنا من مواليد 25 يوليو 1951، وفى مايو 1952، ظهرت لدىَّ أعراض المرض، عند سفرنا إلى سويسرا، برفقة والدتى وشقيقى بعدما رتب والدى أموره هناك.
وعندما عُرض على والدى منصب سفير رفض فى البداية، واختار باريس حتى أتلقى علاجى هناك، فكان الرد عليه بأن فرنسا وإيطاليا بهما أحزاب شيوعية قوية وأنه سيكون هدفاً هناك لتلك الأحزاب، فطلب أن يسافر إلى سويسرا فهى دولة محايدة وتشتهر أيضاً بعلاج العظام، وكان حينها قد أتم عامه الحادى والثلاثين، وكلما كان يسكن بمنزل هناك كان ينتقل منه بسبب شقيقى الذى كان شقياً للغاية حينها، أما أنا فكنت فى مستشفى للعلاج من شلل الأطفال، وتولى والدى أمورى والعطف علىَّ بسبب ظروفى، ورغم هذه المشاعر الطيبة التى كانت لديه، فإنه لم يكن يعرف كيف يعبِّر عنها، لكنها كانت تُترجم إلى أفعال.
وكيف كان يتعامل معكِ فى مرحلة المراهقة؟
– كان يتعامل معى بشدة بعض الشىء، فهو بالنسبة لوالدتى كان مرجعاً فى تربيتنا، وأتذكر حينما كنت فى المرحلة الثانوية أصبت بالخوف والتوتر فى الامتحانات، ففى إحدى المرات نسيت الأقلام الملونة التى أستخدمها فى تلوين الخرائط بامتحان الجغرافيا، فوجدته جاء إلى مدرسة «الليسيه» قبل دخول اللجنة، وكنت أبكى، وأحضر لى الأقلام، وكان بالفعل صاحب مشاعر جياشة لكنه لا يستطيع أن يعبِّر عنها بالكلمات.
وعندما التحقت بالجامعة عام 1969، قبل سيطرة الجماعات الدينية عليها، كانت الموضة تتمثل فى ملابس قصيرة للفتيات، فدخل معى فى نقاش مطول داخل حجرتى، وقال لى: «اسمعى.. مفيش لبس قصير فى الجامعة، هتلاقى ثقافات مختلفة هناك، فالبسى اللى يعجبك فى النادى»، فاخترت ملابس طويلة نسبياً.
كيف مرَّ عليه زواج ابنته الوحيدة؟
– زوجى «شريف» حزن على وفاة والدى أكثر منِّى، ودائماً يقول لنا: «40 سنة ما شُفتش منه حاجة وحشة»، أما نجلى «خالد» فوالدى كانت تربطه به علاقة خاصة للغاية، وكانا يفهمان بعضهما بالنظرات، وعندما توفى والدى كان نجلى فى حالة سيئة جداً، لأنه كان يعتبره سنده.
رفعت السعيد أرسل باقة ورد لوالدى فى ذكرى ميلاده وتوفى فى نفس اليوم عام 2017
من هم أصدقاؤه المقربون؟
– أتذكر حينما أسس جريدة «المساء» كانت تجمعه علاقة قوية للغاية بلطفى الخولى وأحمد بهاء الدين وإبراهيم سعد الدين ولطفى واكد والدكتور رفعت السعيد الذى كانت تجمعه به علاقة متينة، وكان يعتبره شقيقه الأصغر، وتوفِّى فى يوم عيد ميلاد والدى عام 2017، وفى ذلك اليوم أرسل باقة ورد لوالدى، ثم اتصلت به حتى أشكره فوجدته توفِّى، وكانت علاقته جيدة أيضاً بالدكتور أسامة الباز، ورائد الفضاء السوفيتى يورى جاجارين.
ماذا فعل والدكِ خلال أزمتك الصحية فى بداية الألفية الجديدة؟
– فى الفترة بين 2001 و2005 أجريت عدة عمليات جراحية، وكان يبلغ حينها 79 عاماً وكان مرافقاً لى، حيث كنت أُجرى عمليات فى ساقى اليمنى ولم يتركنى أبداً ويحضر لى مجلات باللغة الفرنسية فى ألمانيا، ويجلس معى فى المستشفى من 7:30 صباحاً حتى 8 مساء.
ما سر تقدير واحترام «عبدالناصر» لوالدك رغم الخلاف الفكرى بينهما؟
– جمال عبدالناصر كان يحب والدى جداً ويقدره وقام بتسمية ابنه الكبير «خالد»، فوالدى كان لا ينافق أبداً، ومنذ البداية حينما اختلف مع «عبدالناصر» وسافر للخارج لم يكتب أو يصرح ضد البلد، كان رجلاً وطنياً حتى النخاع، أما «عبدالناصر» فكان ذكياً وزعيم أمة يفهم الأشخاص، ولديه القدرة على قراءة الأشخاص، ويعلم جيداً حجم خالد محيى الدين الذى يتمسك بمبادئه، وكان يجمعهما الود والاحترام.
وماذا عن بقية مجلس قيادة الثورة؟
– أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا زملاء له، أما الأصدقاء فكانوا من خارجه، وعندما عاد من أوروبا لم يكن فى السلطة بينما هم كانوا يتولون مناصب حينها، لكنَّ الأصدقاء المقربين له كانوا من الصحفيين والمثقفين والأصدقاء العرب مثل الأخضر الإبراهيمى، وكانت تربطه علاقة طيبة بالكاتب محمد حسنين هيكل، حيث كانت تتسم علاقتهما بالاحترام فيما بينهما.
والدتى ارتدت الأسود 40 يوماً حزناً على الرئيس
كيف استقبل خبر رحيل «عبدالناصر»؟
– ليلة وفاة جمال عبدالناصر كان عمرى 19 عاماً، وكنت فى زيارة لصديقتى بمنزلها فى «المهندسين»، وأمام منزل أبناء خالة السيدة تحية كاظم كريمة الرئيس عبدالناصر، وهناك علمت بخبر وفاته، وذهبت للبيت، وطلبت من والدى الاستماع للراديو، وعندما تأكد من الخبر تعرض لصدمة شديدة، اتصل هاتفياً بأحمد بهاء الدين وأبلغه أنه سيمر عليه فى منزله، لكن بهاء الدين رفض وجاء إلى والدى ثم تحركا إلى منزل الدكتور إبراهيم سعد الدين فى الجيزة، وذهبوا إلى منزل عبدالناصر ودخل بصعوبة نظراً للحشود الكبيرة، وتقابل هناك مع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبالرغم من الخلافات بين الأعضاء حينها فإنهم وقت الشدة وقفوا جنباً إلى جنب، كما ارتدت والدتى الملابس السوداء لمدة 40 يوماً حداداً على جمال عبدالناصر.
كيف تعامل خالد محيى الدين مع حملات الهجوم عليه التى رافقته فى مراحل كثيرة من حياته؟
– لم يهاجم أحداً رغم الانتقادات الكبيرة التى واجهها، وكانت والدتى الوحيدة التى تضيق بهذا الأمر، لكنه كان يردد دوماً: «السياسة كده»، وأتذكر حين تزوجت، ما كُتب عن حفل زفافى عام 1978 رغم أنه كان حفل زفاف بسيطاً جداً، والمشروبات الأساسية فى الحفل كانت «شاى وقهوة»، ولم يكن هناك وجبة عشاء من الأساس، وكنت أعمل فى الجامعة العربية بعد اختبارات كثيرة وأكملت المسيرة بعد ذلك بمجهودى وكفاءتى، وأثبت نفسى لمدة 40 سنة، ورغم ذلك هناك من كتبوا كذباً أن خالد محيى الدين استغل نفوذه من أجل تعيين ابنته، وحينما سافرت فى شهر العسل إلى فرنسا وجدت هجوماً ضارياً ضد والدى وضد التجمع، وهناك من زعم أن حفل زفافى كانت تكلفته بالدولار، أما زوجى فكان يقوم بإخفاء الجرائد والمجلات التى كانت تصل من مصر حتى لا أصاب بالإحباط.
كيف أثَّرت الصوفية فى حياته؟
– كان يعتز جداً بـ«كفر شكر» وأخلاقه كانت صوفية، مترفعاً عن الصغائر، وقام بتسميتى على اسم جدتى «سميحة»، ووالدتى كانت يتيمة الأب وهى ابنة خالته، وحينما تقدم لخطبتها قال لها إنه سيتزوجها وستقيم معه خالته وإخوتها الصغار، حتى لا تحمل عبء تربيتهم بمفردها، وكان يعشق جدته.
هل كانت تربطه علاقات بخصومه؟
– رغم الاختلاف مع «الوفد» سياسياً فإن علاقة قوية كانت تربطه بمنير فخرى عبدالنور، وإحسان عبدالقدوس ومحمد سيد أحمد أيضاً، وكان يجتمع معهم بشكل منتظم، وكنا على علاقة يسودها الاحترام مع الجميع.
والدى خصص للأسرة يوماً للترفيه وكنا نقضيه فى مشاهدة عروض الأوبرا والسينما
إلى أى مدى انعكست ثقافة والدك عليك وشقيقك؟
– يوم الخميس كان يخصصه لوالدتى وأنا وشقيقى، وكنا نذهب إلى الأوبرا لمشاهدة الباليه الروسى والفقرات الكوميدية الفرنسية، وكانت عمتى هدى محيى الدين تتحدث الفرنسية بطلاقة مثلى، فكان يحجز لنا التذاكر ونذهب معاً، أما والدتى فكانت تخصص لى فساتين للأوبرا، وكل الثقافة التى اكتسبتها فى حياتى يعود الفضل فيها له، وكانت لديه مكتبة ضخمة، ورفض أن يدخل التلفاز منزلنا لمدة سنتين، عام 1960، حتى نتفرغ للمذاكرة والقراءة، وكان يصطحبنا لمشاهدة مسرحيات لطفى الخولى، وعبدالرحمن الشرقاوى، وسعد الدين وهبة، ومسرحيات سميحة أيوب وسهير المرشدى وفؤاد المهندس، وكنا نتابع فرقة رضا والفنون الشعبية، وعروض الباليه، وحضرت معه حفلتين لكوكب الشرق أم كلثوم، كان منزلنا زاخراً بالثقافة ومقصداً للمثقفين والفنانين وعلى رأسهم صلاح جاهين، وكان والدى من عشاق أوبريت «الليلة الكبيرة».
رفض دخول التلفاز منزلنا عامين حتى نتفرغ للقراءة
أين كان يفضِّل خالد محيى الدين قضاء إجازته الصيفية؟
– كنا نقضى إجازة الصيف مع جدى فى شقة الأسرة بميامى، ثم المنتزه، ثم رشدى فى الإسكندرية، وبعد ذلك أصبح يفضل قضاء إجازة الصيف فى الساحل الشمالى.
– كيف دعمت أسرة خالد محيي الدين مسيرته السياسية؟
الأسرة كانت تدعمه فى الانتخابات، وكنا نقوم بدور الحملة الانتخابية، فكان مرتبطاً بكفر شكر، ولكن المنزل كان يحتاج مبلغاً ضخماً لترميمه فيما بعد، وكان مناصفة بين والدى وبين فؤاد محيى الدين، كان منزلاً أثرياً، وتُرسم عليه لوحات عريقة، وانهار هذا المنزل عام 2002، وفترة السياسة كانت عامرة للغاية، لا سيما تأسيس حزب التجمع، وللأسف هذه الحقبة فى حياته لم يتناولها فى مذكراته فضلاً عن تجربته فى تأسيس صحيفتى «المساء والأهالى».