القرآن كلام الله عز وجل، وكتابه المبين، نزل به الروح الأمين على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من لدن حكيم عليم بلسان عربي مبين، منهجا وشريعة وحياة للناس أجمعين. والقرآن الكريم يحوي بين دفتيه قصص الأنبياء والمرسلين والأقوام السابقين، ومن أحسن القصص كما ذكر ربنا عز وجل قصة الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام أجمعين. وسورة يوسف التي أنزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في فترة من الوحشة والغربة والانقطاع لنبينا ودعوته، بعد عام الحزن ووفاة أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وعم النبي وحاميه أبي طالب، كانت بمنزلة المواساة والتثبيت لقلب النبي وهو ـ كما يعاني هذه الفترة الحرجة، يعاين عبر آيات السورة معاناة أخيه يوسف عليه السلام العديد من المحن والابتلاءات، كيد الإخوة، والجب، والخوف، والترويع، والرق، وكيد امرأة العزيز والنسوة، ثم السجن، ثم الرخاء والسلطان المطلق. وفي هذه الآفاق العظيمة، وفي رحلة تأمله وتدبره لهذه السورة الكريمة، يبحر بنا د. أحمد براك الهيفي في اجوائها عبر التفاسير المثبتة وفي مؤلفه البديع «100 فائدة من سورة يوسف» مستجيبا لاقتراح الشيخ د. عبدالعزيز محمد السدحان عند مراجعته كتاب 100 فائدة من تفسير القرطبي، بأن يجمع د. الهيفي فوائد سورة يوسف من تفسيري القرطبي والسعدي في رسالة مستقلة، وهو ما عزم د. الهيفي على تنفيذه، فجمعها، وأضاف اليها فوائد سورة يوسف من كتاب 1000 فائدة من تفسير أضواء البيان للشنقيطي فخرج هذا المؤلف ويحوي اكثر من 100 فائدة.
يورد د. أحمد الهيفي في بداية المؤلف ما سطره العلامة الشنقيطي من الانتصار للقرآن وبيان اعجازه بهذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورة يوسف (الر) كأخواتها من سور القرآن، وهي شهادة بأن الخلق عاجزون عن معارضة القرآن، بمثله مع انه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
ولعل من الفوائد العظيمة المثبتة ما اختلف فيه العلماء من سبب تسمية سورة يوسف بأحسن القصص، ومنها انه لم ترد قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تضمنته قصة يوسف عليه السلام ، وبيان ذلك في آخرها (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وقيل سميت أحسن القصص لحسن مجاوزة يوسف عليه السلام عن اخوته وصبره على أذاهم وعفوه عنهم بعد الالتقاء بهم، عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم حيث قال: (لا تثريب عليكم اليوم) وقبل لأن فيها ذكر كل شيء: الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والانعام والطير وسير الملوك والممالك والتجار والعلماء والجهال، وفيها ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤى.. وغيرها. (تفسير القرطبي).
قصة تامة كاملة
ويرصد د. أحمد الهيفي اللغة اللطيفة والفائدة العظيمة للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسير آية (نحن نقص عليك أحسن القصص) حيث انها قصة تامة كاملة حسنة بعيدا عما ذكر في الاسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا قائل، وأغلبها كذب، فعلى العبد ان يفهم عن الله ما قصه ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل.
ومن الفوائد كذلك تأصيل علم تعبير الرؤى، وهو علم مهم يهبه الله لمن يشاء من عباده، وكيف فسر العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي رؤيا نبي الله يوسف (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، فكما ان هذه الانوار زينة السماء وجمالها ، فكذلك الانبياء والعلماء زينة للارض وجمالها وبهم يهتدى في الظلمات. وفي الآيات أصل ألا نقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح ولا على من لا يحسن التأويل فيها، وما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا.
ويمضي د. أحمد الهيفي في رصد الفوائد في سورة يوسف من تفسيري السعدي والقرطبي في تأصيل المسابقة كشرعة من الشريعة وخصلة بديعة وعون على الحرب، وقد فعلها صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وأيضا إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وكذلك ان الذنب الواحد يستتبع ذنوبا متعددة، ولا يتم لفاعله الا بعدة جرائم، وهذا ما يسمى بشؤم الذنب وآثاره التابعة والسابقة.
صبر اختيار
وفي لفتة لطيفة يرصدها د. أحمد الهيفي من تفسير القرطبي للآية الكريمة (والله غالب على أمره) وكيف ان الله امضى أمره وقضاءه بعد عديد المحن والابتلاءات، فسبحان الله الغالب على أمره. وكيف نجى الله يوسف عليه السلام، وهو من عباده المخلصين من محنة امرأة العزيز، وهي محنة اعظم من محنة اخوته، لأنه صبر عليها صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل، وكيف ان يوسف عليه السلام لم يقع منه هم أصلا بل هو منفي عنه لوجود البرهان وهو ما اثبته شهادة يوسف نفسه وجزمه ببراءته ثم اعتراف المرأة للنسوة واعتراف زوجها واعتراف الشهود، وفوق كل ذلك وقبله وبعده شهادة رب العالمين ببراءته، وانه لا يمكن إغواء المخلصين.
ويؤصل د. أحمد الهيفي في إحدى الفوائد مسألة ان القرائن يعمل بها عند الاشتباه، وكذلك الاشارة الى ان العبد اذا ابتلي بين أمرين: إما فعل معصية او عقوبة دنيوية فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، وكما ان على العبد عبودية في الرخاء فعليه عبودية له في الشدة، كما فعل يوسف عليه السلام بدعوته من معه قبل دخوله السجن وايضا عندما دخل السجن، داعيا الى التوحيد ومحذرا من الشرك، وهذا أصل الدعوة التي حرص نبي الله يوسف على ايصالها للفتيين اللذين رأى كل منهما رؤيا وأرادا تفسيرها، فبدأ بالتوحيد والنهي عن الشرك، ثم بعد ذلك شرع في تفسيرهما.
حفظ الأديان
ويستند د. أحمد الهيفي الى ما أكده العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي من ان المسلم إذا وقع في مكروه وشدة، فلا بأس ان يستعين بمن له قدرة على تخليصه او الاخبار بحاله، وان هذا لا يكون شكوى للمخلوق، وهو ما فعله سيدنا يوسف عليه السلام عندما قال لأحد الفتيين: (اذكرني عند ربك). وكذلك تأصيل المصالح الشرعية المتمثلة في حفظ الأديان والنفوس والعقول والانساب والاموال، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الامور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة وذلك استنباطا من تفسير يوسف عليه السلام لرؤيا الملك.
ويشير العلامة السعدي الى ان جباية الارزاق – إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر يلحقهم – لا بأس بها.
ويؤكد فضيلة العلم، علم الاحكام والشرع، وعلم تعبير الرؤيا وعلم التدبير والتربية. كما انه لا بأس ان يخبر الانسان عما في نفسه من صفات الكمال من علم أو عمل إذا كان في ذلك مصلحة ولم يقصد به العبد الرياء وسلم من الكذب لقول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وكذلك لا تذم الولاية اذا كان المتولي فيها يقوم بما يقدر عليه من حقوق الله وحقوق عباده وانه لا بأس في طلبها اذا كان اعظم كفاءة من غيره.
ويؤصل العلامة القرطبي، كما يرصد د.أحمد الهيفي، الدليل على التحرز من العين والعين حق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ان العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وهذا قول علماء الامة ومذهب اهل السنة وواجب على كل مسلم اعجبه شيء أن يبرّك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة.
ويجيز العلامة الشيخ السعدي استعمال المكايد التي يتوصل بها الى الحقوق وان العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وانما الممنوع التحيل على اسقاط واجب او فعل محرم. كما يجيز استعمال المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب كما فعل يوسف عليه السلام، حيث ألقى الصواع في رحل اخيه ثم استخرجها منه موهما انه سارق وليس فيه الا القرينة الموهمة لاخوته (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) ولم يقل من سرقه.
ويشير قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف (ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) الى ان السرقة من أكبر انواع الفساد في الأرض، وفي قولهم (وما شهدنا إلا بما علمنا) اي لا يجوز للانسان ان يشهد الا بما علمه، وتحققه إما بمشاهدة أو خبر من يثق به وتطمئن اليه النفس لقولهم.
الرضا والتسليم
ويرصد العلامة القرطبي كما ذكر د.أحمد الهيفي فائدة عظيمة في قول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل).. ان الواجب على كل مسلم اذا اصيب بمكروه في نفسه او ولده او ماله ان يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين صلوات الله عليهم اجمعين، كما يؤكد أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب والكلام بما لا ينبغي.
ومن الفوائد المرصودة في هذا المؤلف البديع من تفسيري القرطبي والسعدي جواز الشكوى عند الضر أي الجوع، بل واجب على العبد اذا خاف على نفسه الضر من الفقر وغيره ان يبدي حالته إلى من يرجو منه النفع، وليس ذلك قدحا في التوكل.
ويختم المؤلف الفوائد بالدلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه انزل عليه هذا القرآن وفصل فيه هذه القصة مع انه صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا لدى أولاد يعقوب عندما اجمعوا أمرهم على المكر به وجعله في غيابة الجب، فلولا ان الله أوحى إليه ذلك ما عرفه من تلقاء نفسه.
من الفوائد
علم تعبير الرؤى يعطيه الله لمن يشاء من عباده
ارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما
الحذر من شؤم الذنوب فالواحد يستتبع التعدد
جواز ترك إظهار النعمة عند من يُخشى حسده وكيده
القرائن يعمل بها عند الاشتباه.. «قُدّ قميصه من دبر»
الداعية يبدأ بالأهم ثم المهم.. والتوحيد رأس الدعوة
لا بأس لمن وقع في مكروه أن يستعين بمن يقدر على تخليصه
جباية الأرزاق جائزة إذا أريد بها التوسعة على الناس
لا يُلام الإنسان على السعي في دفع التهمة عن نفسه
لا تذم الولاية إذا قام المتولي بحقوق الله وحقوق عباده
لا بأس في طلب الوظيفة إذا كان أعظم كفاءة من غيره
العين حق والتحرز منها ضرورة وهو مذهب أهل السنة
جواز استعمال المكايد المتوصل بها إلى الحقوق
سوء الظن مع وجود القرائن غير ممنوع ولا محرم
الحزن ليس محظوراً.. بل الولولة وشق الثياب
الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل