نظرة عامة حول المنجز الفلسفي بالبلاد، منذ “عودة الفلسفة إلى الكيان الثقافي المغربي” منتصف القرن العشرين، تحضر في نص جديد للأكاديمي محمد المصباحي، قدم به أحدث أعداد فصلية “المناهل”، التابعة لوزارة الثقافة، التي أصدرت ملفا خاصا عن المنجز الفلسفي بالمملكة.
وحصر المصباحي أشكال “عودة الفلسفة إلى الذات المغربية” في “نحوين مختلفين”، أولهما مع محمد عزيز الحبابي، الذي اتخذت عنده هذه العودة شكل “كتابة فلسفية بالمعنى الصناعي للكلمة (…) وهو ما يفسر دفاعه عن “نسق” فلسفي لقّبه في صيغته الأولى بـ”الشخصانية الواقعية”، وفي صيغته الثانية بـ”الشخصانية الإسلامية”.
وأضاف المصباحي: “كانت الصيغتان نتيجة قراءة ونقد مزدوج أولا للفكر الفلسفي الغربي الذي أفضى به إلى تجديد مفهوم الشخص بإعطاء الأسبقية للجماعة على الفرد، وهو الشرط الذاتي، في نظره، لولوج عالم الحداثة؛ أما نقده الثاني فكان نقدا فلسفيا للإسلام وللفكر الإسلامي مكنه من العثور على بوادر شخصانية إسلامية تضع الإنسان بعقله وحريته وأخلاقه في قلب الإسلام في تواصل مباشر مع الله بدون وساطة من الفقه أو الكلام أو التصوف”.
أما الشكل الثاني لـ”عودة الفلسفة إلى الكيان الثقافي المغربي” فاتخذت “منحى آخر” مع عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وعلي أومليل، حيث أصرت هذه الأسماء على “التخلي عن فكرة “النسق” (أو الانتماء إلى مدرسة فلسفية) واستبدلته بفكرة “المشروع الفكري” باعتباره ورشا مفتوحا هدفه تغيير الإنسان والمجتمع انطلاقا من نقد مزدوج صريح هذه المرة للتراث والحداثة”.
هذا المنحى، قدم نفسه، وفق محمد المصباحي، بوصفه “انقلابا على التفكير الفلسفي الخالص الذي دشنه الحبابي، وهو ما كان له وقع على الحبابي نفسه، إذ نجده ينقلب على خطه الفلسفي الأول بأن تحول من التنظير لـ’الشخص الواقعي’ تنظيرا أونطولوجيا إلى التنظير له بوصفه ‘شخصا مسلما’”.
هكذا، كان رهان التفكير الفلسفي لدى معظم أفراد هذا الجيل “سياسيا”؛ وذلك “بالمطالبة والعمل على تحرير الذات الفردية والجماعية من العوائق الذاتية والغيرية التي تعرقل ولوجها إلى معترك الحداثة، ومواجهة تحدياتها بلوازمها المختلفة من عقلانية وليبرالية واشتراكية”.
كما أفضى تحول النظر الفلسفي من “الاهتمام بـ’الشخص الأنطولوجي’ إلى الاهتمام بـ’الذات’ إلى انقسام المفكرين المنتمين إلى هذا الجيل إما إلى باحث عن ‘الذات الإيديولوجية التاريخانية’، التي أحدثت القطيعة مع التراث (العروي)، أو باحث عن ‘الذات (العقل) البرهانية التاريخية’ المتصالحة مع الجانب التنويري مع الذات التراثية (الجابري)، أو ساع وراء ‘ذات مزدوجة وبينية’ يتراوح انتماؤها بين المحلي والكوني، فلا تلغي ذات الآخر وإنما تتحقق به ومعه وضده حسب الوضع الذي توجد فيه (الخطيبي)”.
وبخلاف الحبابي “الذي لم يذكر الماركسية إلا لينتقدها”، ذكر المصباحي أن “هذه المقاربة الجذرية للتاريخ وللوضع البشري” قد حظيت في المغرب والعالم العربي بـ”حضور قوي في جل مشاريع مفكري هذا الجيل بألوانها المختلفة على مستويات المفاهيم والرؤى والتحاليل”.
ورصد الكاتب هنا مركزية ابن رشد الذي كان عند هذا الجيل “محركا للنقاش ونقطة صراعٍ”، انطلاقا من “شعار التغيير” الذي اعتُبر طريقُه “التأويل”، ظنا منهم أن “الانتصار في صراع التأويلات هو الذي يحسم معركة صراع السياسات”.
هكذا انتصر الجابري لـ”عقلانية ابن رشد بكيفية قطعية”، فيما نَاوَأَ هذه الفكرةَ بقدر يختلف كل من العروي وأومليل، وهو “عداء سيشتد عند طه عبد الرحمن، وعبد المجيد الصغير من الجيل الثاني”.
لكن، رغم دعوات القطيعة مع التراث الاجتماعي والسياسي والثقافي “التي تُحمِّله قسطا من مسؤولية التأخر التاريخي”، ظل التراث “حيا في مشاريعهم الفكرية، بل وكان ابن رشد وابن خلدون، مع عدد من أسماء الجيل الأول، رائدَيهم “بنحو من الأنحاء”، في حين ظل أبو حامد الغزالي وابن عربي “من المنبوذين في مشاريعهم الفكرية عموما”.
ولا يرى المصباحي في هذا “صراعا بين التراث والحداثة، أو صراعا بين العقلانية التنويرية واللاعقلانية الظلامية، أو صراعا بين القائلين بالصلة بين الشريعة والفلسفة والقائلين بالقطع معها”، بل هو “بالأحرى اختلاف طرق اختراق الحُجُب المسدلة بيننا وبين الحداثة، وإلا فإن الجميع يرنو إلى الحداثة بوصفها قدرا لا مناص منه”.
أما الجيل الموالي من المشتغلين المغاربة بالفلسفة فلا يرى المصباحي بينَه قواسم مشتركة؛ حيث “ذهبوا في أبحاثهم الفلسفية مذاهب شتى بحثا عن إضافات جديدة للمنجز الفلسفي الذي قدمه الجيل المؤسس”.
وعلى وجه التقريب، عدد الكاتب أعلام هذا الجيل مع ترك القوس مفتوحا، فكتب أسماء كل من الطاهر وعزيز، مصطفى القباج، جمال الدين العلوي، عبد الرزاق الدواي، طه عبد الرحمن، محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، محمد المصباحي، عبد العلي العمراني-جمال، محمد وقيدي، سالم يفوت، سعيد بنسعيد العلوي، كمال عبد اللطيف، بنسالم حميش، محمد ألوزاد، وأحمد العلمي حمدان.
اهتمامات هذا الجيل الفلسفي الثاني بعد العودة المغربية إلى الفلسفة، وفق الأكاديمي المنتمي إليه؛ “تنوعت وتعددت بشكل كبير بين الدراسة والتحقيق مرورا بالتأملات الفلسفية، مع نفور واضح من بناء المشاريع الكبرى باستثناء طه عبد الرحمن الذي أبدى، منذ البداية، إصرارا عنيدا لا يفتر لبناء مشروع فلسفي قائم على المسلمات القرآنية، وعلى العداوة السافرة لمصادرات الحداثة ‘الغربية’، لغاية تأسيس ما يمكننا أن نسميها ‘الفلسفة الإسلامية’”.
ثم “بعد انقشاع أوهام التغيير الجذري والعقلانية التنويرية الصارمة”، مال جل أفراد هذا الجيل إلى “تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها بعض الرواد الأوائل، كالعداء السافر للغزالي (الأشعرية) وابن عربي (الصوفية)، والانتصار المفرط للتأويل الإيديولوجي، والاستهجان المبالَغ فيه للجدل والخيال ومشتقاته من أسطورة وتمثيل واستعارة… ما مكنهم من المرونة في التعاطي مع معايير الحداثة الجازمة والانفتاح على المغامرات النظرية والعملية للفكر الفلسفي ما بعد الحداثي”.
ويعيد المصباحي “هذا التحول” إلى “تأثير مراجعات الحداثة لأصولها، وبخاصة لمفهوم التنوير وما تتصل به من قيم سياسية وثقافية وفكرية”، ويواصل: “إذا كان الجيل الأول قد آلى على نفسه أن يدافع عن إيديولوجية الوحدة وما ترتب من الإيمان بكونية الفلسفة، فإن المشتغلين بالفلسفة من الأجيال اللاحقة عليه صاروا أميل إلى الكلام عن فلسفات، لا عن فلسفة واحدة”، كما اهتم أفراد من هذا الجيل بتحقيق النصوص الفلسفية للفكر الأندلسي، مثل جمال الدين العلوي، ومحمد ألوزاد، ثم أحمد العلمي حمدان.
وسجل الكاتب أن الأجيال اللاحقة للجيل الأول من الباحثين في “الشأن الفلسفي” يصعب حصر عددها، وذكر من بين أسمائها، على سبيل المثال لا الحصر: عبد الإله بلقزيز، عبد الحق منصف، نور الدين أفاية، إسماعيل مصدق، فريد الزاهي، حمو النقاري، محمد الدكالي، عز العرب الحكيم بناني، محمد الشيخ، عبد العالي العزوزي، موليم العروسي، عبد اللطيف فتح الدين، محمد الأشهب، إدريس كثير، حميد لشهب، عز الدين الخطابي، وبناصر البعزاتي.
كما ذكر أسماء يوسف تيبس، عبد المجيد باعكريم، محمد الأندلسي، مصطفى العريصة، محمد موهوب، إدريس هاني، نبيل فازيو، عادل حدجامي، محمد آيت حنا، محمد هاشمي، سعيد البوسكلاوي، فؤاد بن أحمد، أحمد العلمي، محمد مزيان، محمد مزوز، يوسف بنعدي، محمد لشقر، محمد قشيقش، جمال راشق، صلاح بوشتلة، عزيز أبو الشرع، أحمد كازا، عبد النبي الحري، محمد أيت حمو النقاري، محمد أيت حمو، عبد العزيز بومسوهلي، محمد بنمخلوف، عبد السلام بن ميس، محمد بنحماني، وعزيز لزرق.
باحثو هذا الجيل “يتعاطون للبحث والكتابة في مجالات جديدة وموضوعات حديثة ومتنوعة، من البحث في قضايا الميتافيزيقا والإبيستيمولوجيا إلى البحث في قضايا النهضة وفلسفة الحق وفلسفة القانون والسياسة والتربية وعلم الجمال والسينما، وفلسفة الترجمة والتاريخ… ولبعضهم مشاريع ثقافية يعملون على بنائها بنوع من التفاني”.
ويرى الكاتب أن “المحرك الأساسي للبحث الفلسفي لدى هذا الجيل” هو “الرغبة في تعزيز القول الفلسفي في مجالنا الثقافي تعزيزا حداثيا عبر الاحتكاك بآخر مغامرات تيارات الفلسفة الغربية التي تتكلم عن ما بعد الفلسفة”.
بعد هذا العرض العام لتاريخ عودة البحث في الفلسفة، وتقديم أمثلة عن المهتمين بها، خلص المصباحي إلى أن المنجز الفلسفي المغربي تقتسمه “أربعة عقول أساسية”: “العقل البرهاني المتصل بالتراث، والعقل التاريخاني النقدي المنفصل عن التراث، والعقل الأونطولوجي، والعقل القرآني، هذا بالإضافة إلى الذين يذهبون وراء العقل لاقتناص المعاني الشريدة”.
هذا المسار، منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم، الذي انعكس على المعجم الفلسفي العربي، وخلق صراع مصطلحات، ومازال يطور اللغة المتلقية؛ حقق، وفق محمد المصباحي؛ “نوعا من التراكم النسبي للقول الفلسفي في المغرب”.
المصدر: وكالات