“الترجمة تفاوض”، وفق الناقد عبد الفتاح الحجمري؛ فـ”كل مترجم يعوض خيانته للنص بنوع من التفاوض اللغوي والدلالي ليستقيم المعنى وتسعفه الإشارة إن لم تُسعفهُ العِبارة!”.
في مقال جديد، يوضح الحجمري أن الترجمة “ليست كتابة تابعة أو تالية على كتابة سابقة”، بل هي “تجربة في الكتابة لها تاريخها ومعناها إبداعا وتواصلا”، وترتبط “باستعارة العبور والنقل والتجْسير لأنها تسافرُ بين اللغات والثقافات وتجعلها تتثاقف في ما بينها”.
وفي نصه المعنون بـ”هل الترجمة ممارسة فلسفية؟”، يكتب الناقد: “تحيا الفلسفة بالترجمة، وتغتني الترجمة بالفلسفة حين تهدف إلى ابتداع لغة جديدة؛ ففي الترجمة لا نَنقُلُ الكلمةَ من لُغة إلى أخرى، بل ننْقلها من مَجَال فكري إلى آخر”.
نص المقال:
هلْ التَّرجمةُ مُمَارسَة فَلْسفِية؟
1
بين اعتبار الترجمة علما أو فنا يستمر الجدل بين المنظرين والممارسين بما أن الأمر يتعلّق، في الجوهر، بتفاعل دائم بين اللغات والثقافات يتخذ أحيانا صفة الفهم وسوء الفهم الناتجين عن ترسبات حضارية عامة. خصص عبد السلام بنعبد العالي كتابه انتعاشة اللغة: كتابات حول الترجمة لبحث العديد من القضايا ذات الصلة بتصورات الترجمة، وكان من أهمها مبحث خاص عن الترجمة والتأويل. ولعل ما أثار انتباهي في هذا المبحث تلك الواو التي تربط الترجمة بالتأويل: هل هي واو وصل، أم واو فصل؟ علما أن كل جواب على هذا السؤال يستتبع -في نظري- خيارا في التحليل يروم بيان اعتبار كل ترجمة تأويلا، أو نوعا من التأويل؛ ذلك أنه لكل نص ظاهر وله مُضمر، والمترجمُ عليه أن يكون عالما بهما معا، وبمختلف مقاماتهما الدلالية المستمدة من سياق الاستعمال، لا من الكلمات المنعزلة كما هي في القواميس والمعاجم بوصفها مجرد علامات لغوية.
أخذا بالاعتبار ما سبق، يبقى التساؤل عن مهمة المترجم موضوع بحث متواصل، منذ التصوّر الشهير الذي وضعه للمرة الأولى “Walter Benjamin” عام 1923 مقدمة لترجمة “المشاهد الباريسية”، المشكلة للقسم الثاني من ديوان “Charles Baudelaire أزهار الألم”؛ ذلك أن التقيد بمعيار الأمانة في ترجمة النص حرفيا، كلمة كلمة، قد يكون عائقا أمام فهْم ونقل معناه، لتبرُز مفارقة شهيرة بين أنصار الدفاع في الترجمة عن المبنى وأنصار تبنّي الدفاع عن المعنى؛ وفي الحالتين معا فإن المترجم لا يحتاج إلى تفعيل معرفته بلغتين فقط، بل هو في حاجة أيضا إلى استحضار معرفته بثقافتين مختلفتين وتقريب الثقافة الأجنبية ليسهل التعرف عليها من قبل المتلقي؛ فالمترجم وسيط بين ثقافتين. وهذا ما بينه بعمق “Umerto Eco” في دراسته: “أن نقول الشيء نفسه تقريبا”.
2
في الترجمة: هل نترجم المعنى أم نؤوله؟ وما العمل حين يتطلب الأمر من المترجم الاختيار بين معنيين أو أكثر؟ كيف يتجاوز المترجم الْتباس المعاني؟ هل يمكن ترجمة المعنى الأصلي من غير خيانة الكلمات؟ والإفراط في التأويل هل يفقد النص المترجم معناه؟ هل يصح القول إن الدلالة موجودة في النص والمعنى موجود في النص المترجم (إذا أخذنا بالاعتبار أن الكلمات تدل على شيء في حين أن معناها يدل على شيء آخر)؟ هل يجوز للمترجم أن يزيد في معنى النص أو ينقص منه؟
ما من شك في أن الترجمة مهما كانت تقنية هي في نهاية المطاف تأويل؛ وهذا ما قصده “Hans-Georg Gadamer” حين دافع في أكثر من مقام على فكرة مفادها أن الترجمة ترغمنا، ليس فقط على إيجاد اللفظ المناسب، وإنما أيضا بناء وتشكيل المعنى الحقيقي للنص داخل أفق لغوي جديد.
بهذا المعنى، ليست الترجمة كتابة تابعة أو تالية على كتابة سابقة، إنها تجربة في الكتابة لها تاريخها ومعناها إبداعا وتواصلا، أي أن الإدراك الثقافي للمترجم يكون موسوما بترسبات خطاب التاريخ والمجتمع كي يتمكن من تجاوز تجربة الغُربة والغَريب التي تحدث عنها Antoine Berman وخصص لها أحد كُتبه الأساسية في محاولة للجواب على هذا السؤال: “ألا يشعر المترجم أثناء ممارسته للترجمة، بأنّ لغته ضعيفة وفقيرة أمام الغِنى اللّغوي للعمل الأجنبي؟”.
تجربة الغريب: مأزق من مآزق المترجم في عمله وفي سعيه ألا تكون لغته غريبة أمام لغة أجنبية، من هنا بروز مفهوم سخاء المترجم générosité du traducteur في البحث عن الصيغة المثلى والتعبير الأدق، وربما لهذا السبب جعلها Umberto Eco، في دراسته التي لمحت إليها سابقا، متعلقة بخلق عوالم ممكنة، أي أننا لترجمة نص ما ولفهمه “ينبغي أن نقوم بافتراض حول العالم الممكن الذي يريد تمثيله. هذا يعني أن الترجمة، في غياب إشارات مناسبة، تعتمد على فرضيات، ولا يمكن للمترجم أن يُقدم على نقل نص من لغة إلى أخرى إلا إذا أعدّ فرضية تبدو مقبولة (على حدّ تعبير عبد السلام بنعبد العالي في “انتعاشة اللغة، ص 58″؛ ولذلك حين يُعنون “Eco” الفصل العاشر من هذه الدراسة: التأويل ليس ترجمة فإنه، وبعد تقليب هذه الأطروحة، يستنتج بأن “عالم التأويل أوسع من عالم الترجمة”، فالتأويل يكون أولا ثم تأتي الترجمة بعد ذلك.
كل حديث عن الترجمة والتأويل مقترن بمفاهيم الأمانة والخيانة والضيافة، والفهم، والتفسير والإبداع، وانتعاشة اللغة والتي بفضلها “يرى الأدب نفسه على نحو مغاير، يرى نفسه وقد بعثت فيه حيوات أخرى، وأُدخل في شبكات أخرى من العلائق، وانفتح على ثقافات، لم يكن ليتوقع الحياة داخلها” (بنعبد العالي – انتعاشة اللغة: ص 12-13).
3
بَيْن أن تكون عِلْما أو فَنّا، ها هي الترجمة ترتبط باستعارة العبور والنقل والتجْسير لأنها تسافرُ بين اللغات والثقافات وتجعلها تتثاقف في ما بينها.
تحيا الفلسفة بالترجمة، وتغتني الترجمة بالفلسفة حين تهدف إلى ابتداع لغة جديدة؛ ففي الترجمة لا نَنقُلُ الكلمةَ من لُغة إلى أخرى، بل ننْقلها من مَجَال فكري إلى آخر؛ وفي جميع الأحوال، “إما أن يترك المترجم الكاتب هادئًا قدر الإمكان ويجعل القارئ يذهب لمقابلته، أو يترك القارئ هادئًا ويجعل الكاتب يذهب إلى للقائه (Schleiermacher)”.
ليست الترجمة خيانة، إنها تفاوض؛ هي قول الشيء نفسه تقريبا بلغة أخرى (Eco). بيد أننا حين نفكر في هذه العبارة مليا، يتبين أن الترجمة لا تقول الشيء نفسه بلغتين مختلفتين، وأن “تقريبا” هاته تجعل الترجمة مستحيلة من غير خيانة، وأن كل مترجم يعوض خيانته للنص بنوع من التفاوض اللغوي والدلالي ليستقيم المعنى وتسعفه الإشارة إن لم تُسعفهُ العِبارة!
المصدر: وكالات