قال الناقد محمد بنعزيز: “بينما شعوب وأمم العالم تتابع مباريات كأس العالم، يتسلّم المعلقون البلغاء الكلمة لتوصيف المقابلات بكل اللغات، وهنا يقع الفرق”، موضحا أنه “يوجد صِنف مُعلقين نادر يركزون على توصيف ما يجري على المستطيل الأخضر، وصنف معلقين يشردون عن فعل اللعب إلى تعابير انفعالية”.
وأشار بنعزيز، في مقال له بعنوان “طريقتان في توصيف فيلم ومقابلة في كرة القدم”، إلى أنه “في السينما أيضا هناك من يتحدث عن فيلم وليس عن كل جماليات السينما الساحرة القابضة على جوهر الوجود الإنساني”، مضيفا “ما أكثر المعلقين في الكرة والسينما، وما أندر المحللين”.
هذا نص المقال:
أرسلت شعوبُ العالم خيرة شبيبتها في كرة القدم إلى قطر للتنافس على كأس العالم، وبالمناسبة اشترى أرباب المقاهي المغاربة شاشات جديدة وكبيرة لتوفير فرجة كبرى لمشاهدي مقابلات مونديال قطر 2022. أثناء مقابلة منتخبيْ السعودية والأرجنتين كانت المقاهي المغربية ممتلئة عن آخرها، وكان المتفرجون واقفين يشجعون المنتخب السعودي بحماس شديد وينددون بالحَكم الذي زاد شوطا إضافيا من عِنده قبل إطلاق صفارة النهاية. احتفل المغاربة بالنصر على ليونيل ميسي وارتفعت معنوياتهم ورفعوا سقف توقعاتهم لكي يهزموا منتخب كرواتيا، وصيفة بطل العالم 2018، بقيادة لوكا مودريتش.
لم يسبق للمقاهي أن توفرت على شاشات تلفزيونية بهذا العدد وهذا الحجم.. صار اللاعب يظهر على الشاشة بحجمه الطبيعي تقريبا، وبالتالي يشعر المتفرج كأن اللاعب حيّ وحقيقي أمامه، وهذا يزيد من التفاعل والحماس ويلغي المسافة بين بلد التنظيم وبلدان المتابعة.
بفضل حجم الشاشات الكبيرة الملصقة على الجدران صارت المقاهي كقاعات سينمائية، وهذا يوفر متعة هائلة للعيون.. لا تستطيع السينما استقطاب مئات الملايين من البشر مثل كرة القدم. لكن قوة السينما تكْمن في أن أفلامها العظيمة لا تشيخ وتُشاهد مرارا بعد عشرات السنين من تصويرها، بينما تفقد مقابلات كرة القدم فور انتهائها.
صحيح صار تصوير المقابلات أشبه بالسينما بفضل تصوير المقابلات بعدد كبير من الكاميرات الثابتة والمنقولة والمُحَلقة وبفضل مونتاج فني يجري على المباشر، وهذا عمل جبار تقوم به قنوات دولية والنتيجة لم يعد المغاربة يشاهدون المسابقات الرياضية من خلال قنوات تلفزية مغربية محلية.
بينما شعوب وأمم العالم تتابع المباريات يتسلم المعلقون البلغاء الكلمة لتوصيف المقابلات بكل اللغات، وهنا يقع الفرق. يوجد صِنف مُعلقين نادر يركزون على توصيف ما يجري على المستطيل الأخضر وصنف معلقين يشردون عن فعل اللعب إلى تعابير انفعالية مثل: مقابلة عظيمة، الجو مناسب للعب معشوقة الجماهير، هذا لاعب صام عن التهديف، محاولة تسديد مشرفة، الكرة عند اللاعب رقم عشرة (يظهر على الشاشة والكرة بين قدميه لكن المعلق يفكر ويتحدث للأذن بمنطق الإذاعة)، يتحدث المعلق عن لاعب ما فيشير إلى عدد متابعيه في إنستغرام وعدد زوجاته، فجأة يسْرد معلومات جاهزة عن مونديال 1960.. وهذا خطاب جاهز قبل بدء المقابلة.
بعد سرد أمجاد الماضي ينتقل المعلق إلى تخمين النتيجة والتوقع وعرض الرأي الشخصي في جمل إنشائية طويلة.. يعلن أن التعادل مفيد للفريق، غالبا ما يتحدث المعلق كواحد من جمهور الفريق المتنافس فينسى الحياد ويجرفه الحماس ويرفع صوته كثيرا. وقد يشرد فيتغزل بشابة من الجمهور.. وحين يتم تسجيل هدف يتمنى النصر للفريق وكأن الأحلام الكُروية تتحقق من تلقاء نفسها.
لا يُقدم هذا الصنف من المعلقين أي معلومة مفيدة للمتفرجين في المباريات.
يوجد تشابه بين طريقة حديث هذا المعلق عن الكرة وصنف معلقين كثيرين عن السينما يعرضون خطابا إنشائيا فضفاضا عن السينما كفن عظيم يسحر الملايين.. خطاب وتنظير عقيم مجرد ناجز قبل مشاهدة فيلم وقبل بدء مهرجان.
الطريقة الثانية للتعليق على مقابلة كرة قدم يمارسها معلق ينتج خطابه بينما الكرة تتحرك في الملعب، وهكذا يركز على توصيف مقابلة جارية فيشير إلى قدرة لاعب معين على تمرير وتوقيف الكرة واللعب في أكثر من موقع، وقدرة لاعب آخر على المراوغة والتسديد.
يُميز هذا المعلق الماهر بين حراسة المنطقة والحراسة اللصيقة وينتبه إلى مهارة مدرب السعودية في كسر الهجوم الأرجنتيني بخطة التسلل.. واستخدام حراسة المنطقة وليس حراسة ميسي رجلا لرجل لقدرة الأرجنتيني على المراوغة والفرار. ينتبه المعلق إلى لاعب يمتلك الطزاجة البدنية وآخر يفتقدها في المباراة.. يميز بين المزاجية والتخطيط في سلوك اللاعب، بين العقلية المحترفة والعقلية الهاوية.. يلاحظ علاقة اللاعبين وكيف تنعكس على سلاسة التمريرات.
يصف المعلق المتمكن فن الضغط على حامل الكرة، يرصد بصمة مدرب جديد حتى لو لم يساهم في تأهل المنتخب المغربي مثلا. ينوّه المعلق بأهمية أسلوب وليد الركراكي في صنع فريق منسجم لا تُخرب النزعات المزاجية قدراته الهجومية.
النتيجة: لقد صمد الشباب المغاربة ووصلوا نصف النهاية، وهذا ما جعلني أسمع قلبي ينبض لأول مرة في حياتي.
سمعت قلبي فعلا لا مجازا.
بينما أتفرج واقفا أنتظر من معلق ماهر أن يرصد مهارة زياش في استقباله الكرة وقدرته على السيطرة عليها، يصف قدرة اللاعبين على الانتشار وتحويل الاستحواذ على الكرة إلى تهديف. يرصد مصادر الطزاجة البدنية وأثرها في فعالية المرتدات التي تفتح ممرات في الخط الخلفي للفريق الخصم.
هذا صنف معلق رياضي يتحدث لغة الخبير وليس لغة المتحمس. الحماس للجمهور وليس للمعلق الخبير.. ما أندر هذا الصنف من المعلقين.
في السينما أيضا هناك من يتحدث عن فيلم وليس عن كل جماليات السينما الساحرة القابضة على جوهر الوجود الإنساني. ما أكثر المعلقين من الصنف الأول في الكرة والسينما وما أندر المحللين من الصنف الثاني.
المقابل السينمائي لهذا المعلق هو الناقد الذي يكتب عن فيلم محدد بعد مشاهدته ويتحدث عن سيناريو ينطلق من صُدفة لبناء تداعيات درامية تراكمية، سيناريو يبرز رغبات الشخصيات والعوائق التي تواجهها. ناقد يرصد المؤشرات البصرية في الفيلم وكيفية تصوير ردود فعل وجوه الممثلين. ناقد دقيق الملاحظة يبين للقارئ كيف يجعل المونتاج الأحداث أقل عشوائية.
هذا هو عمل الناقد من الصنف الثاني، الذي ينشئ خطابا يخص فيلما محددا، خاصة بصدد أفلام المهرجانات التي تحتفي بسينما المؤلف التي تحتاج مواكبة نقدية سينمائية عميقة لا تقدر عليها أخبار الفساتين والقبل والبوز.
كذلك التعليق على مقابلة كرة قدم يكون أكثر تأثيرا كلما كان عميقا ومركزا على فعل اللعب. وقد تعلمت الكثير من الإيطالي المغربي لينو باكو في وصف المقابلات واستخدمت ذلك الأسلوب في تحليل الأفلام.
المصدر: وكالات