ترجمة جديدة وقعها السيميائي المغربي سعيد بنكراد، تهتم بوسائل التواصل الاجتماعي وتقدم أطروحة مغايرة لتصور “دمقرطة” برمجيات التواصل للنقاش العمومي.
هذا الكتاب الجديد الذي استقبلته المكتبات والأكشاك مع مطلع السنة الجديدة 2023، نقل إلى اللغة العربية عمل الفيلسوف الفرنسي روبير ريديكير، وترجم عنوانه بـ”شبكات التواصل الاجتماعي: حرب التنانين”.
في تقديمه لهذا العمل، ذكر الأكاديمي سعيد بنكراد أنه اختار ترجمته لأنه “يقول الكثير من الأشياء عن واقع الاتِّصال الافتراضيِّ، ويتحدَّث عن حياة الأفراد والجماعات، وعن القيم الجديدة وعن تحكُّم الخوارزميَّات في سلوك النَّاس ومواقفهم في السِّياسة والاجتماع”، ولأنه “يقول أشياء كثيرة تتمحور جميعها حول تبعات ظهور هذه الوسائط الجديدة التي أدمنَ النَّاس عليها”.
ونبه بنكراد إلى أن الأساسي في الكتاب هو حديثه عن “حقيقة الغافام، عمالقة الرَّقميَّات وأسيادها”؛ فـ”لم يعد الفرد عند المؤلِّف هو المستهدف، بل الدَّولة الحديثة ذاتها. إنَّ الغافام تقف في وجهها، لقد استولَت على صلاحيَّاتها، وهي آخذة في تدمير سيادتها بغاية الحلول محلَّها في القريب المنظور”، ثم استشهد بما كتبه ريديكير: “بعد أربعة قرون على ميلاد الدَّولة الحديثة، ها هو التِّنِّين يرى أمامَه خصماً غير مُتوقَّع، مُستعدَّاً ليحلَّ محلَّه، إنَّه تنِّين من طبيعة أخرى. وعندما اتَّضحَت معالم هذا السِّياق، كشف الخصام بين الجهاز التَّنفيذيِّ في زمن إدارة دونالد ترامب وبين شبكات التَّواصل الاجتماعيِّ عن حقيقة الغافام: إنَّهم يُشكِّلون حلقة مذهلة في هذه الحرب”.
وذكر بنكراد في تقديمه أننا نعيش “مرحلة مفصليَّة في تاريخ الإنسان على الأرض، ستَقودنا إلى المزج الكُلِّيِّ بين الإنسان والآلة ضمنَ شكل وجوديٍّ جديد يقطع صِلَته مع زمنيَّة الإنسان القديم والحديث على حدٍّ سواء. فالترانسإنسانيَّة ليسَتْ مجرَّد محاولة طبِّيَّة قائمة على تعديلٍ جِينيٍّ أو تصرُّف في بعض وظائف الجسم، بل هي في المقام الأوَّل حالة حضاريَّة، أو هي توجُّه ثقافيٌّ إيديولوجيٌّ يسعى إلى تدجين الكائن البشريِّ وتحويله إلى مُستهلِك طيِّع يعيش بالحاجات الحسِّيَّة وحدها”.
وتابع: “لقد وجدَت الإنسانية نفسَها فجأةً أمام شكل جديد من الرَّوابط والعلاقات اتَّخذت من الفضاء الافتراضيِّ موطناً بديلا عمَّا يُعاش في حقيقة الحياة، ففيه يُمارس النَّاس اتِّصالاً لا ينتهي أبداً. فكان أنْ تحوَّل هذا التَّواصل إلى وصفة علاجيَّة ينظر إليها المتَّصلون باعتبارها التِّرياق الشَّافي من كلِّ أمراض المجتمع وأزماته. وذاك هو مصدر الإحساس الذي يرافق الدَّاخلين إلى الشَّبكات، فالتَّسجيل في فيسبوك هو الميلاد الحقيقيُّ للمُبحِر، إنَّه لحظة الانتقال من عالم يورِث التَّعب والتَّعقيد إلى آخَر كلُّ شيء فيه بدون حساب، عالم طيِّع لا يقدِّم للمُبحِرين إلَّا ما يريدون”.
وعبر الأكاديمي ذاته عن اعتقاده أن ما يُعتبَر ديمقراطيَّة في وسائل التواصل الاجتماعي “ليس سوى انفجار لذاتانيَّة تنكَّرَت لكلِّ الأبعاد الموضوعيَّة فيها وفي الوجود، أو لأغلبها، لكي تتحوَّل إلى مصدر لتقديرات لحظيَّة عابرة يحكمُها النَّقر والسَّعي وراء لايكات أو جيمات هي شرط حضورها في الشَّبكة وغاياته: يتعلَّق الأمر بـعددٍ لا مُتَناهٍ من ذاتيَّات صغيرة مُستبدَّة لا تثق سوى في نفسها، إنَّها تنتشر في شبكات التَّواصل الاجتماعيِّ في هيئة طحالب لا عمق لها سوى ما يقوله ملمسُها الخارجيُّ. إنَّها ذاتيَّات فارغة في الغالب، وخاضعة لسطوة أهوائِها وحسدِها واندفاعها وآرائها المتعصِّبة. إنَّها توهم الآخَرين وتوهم نفسَها أنَّها سيِّدة في الشَّبكة، في حين أنَّها في حقيقة الأمر لا تتحكَّم في نفسها، فالبرمجيَّات تُوجِّهُها وفقَ ما تُريده الخوارزميَّات المصمَّمة من أجل النَّصْب والتَّحايل على الحقائق ونشر الأخبار المزيَّفة والدِّعاية الإشهاريَّة، أو التَّوجيه الإيديولوجيِّ، أو ما تبحث عنه العيون المتجسِّسَة في الفضاء الافتراضيِّ.”
وزاد شارحا: “إنَّ الاتِّصال، بصيغته الحالية، كما يتحقَّق في هذه الشَّبكات خاصَّة، من طبيعة أخرى، ليس تواصلاً، كما يقتضي ذلك الاجتماع الإنسانيُّ، أي نداء من أجل حميميَّة تحتفي بالدِّفء في الآخر، كما لا يمثِّل حالة عطاءٍ يهب فيه المرءُ الآخَرين جزءاً مِمَّا يملك ويأخذ منهم أيضاً؛ إنَّه، على العكس من ذلك، مُوجّه إلى خلق حالاتِ تقاطع تشترط استبعاد اللِّقاء الفعليِّ، أو تعمل على تجنُّبه. إنَّه دالٌّ على لحظة عابرة تتحقَّق في زحمة يحضر فيها النَّاس باعتبارهم صوراً بلا روح. فالأنا المتَّصِلة هي غيرها في حقيقة معيشها اليوميِّ، إنَّها صورة عن كائن وُجد لكي يتَّصل من أجل الانفصال.”
هذا النوع من الاتصال خلق، وفق بنكراد، “إنساناً جديداً يعيش وفقَ إكراهات زمنيَّة لا يتحقَّق دفْقُها ضمنَ فضاءٍ قابل للقياس”، والشبكات التواصلية “تفضح”، و”فضيحتُها لا يمكن التَّحكُّم فيها؛ لأنَّها وليدة الرَّأي والانفعال. فالإنسان المتَّصِل إنسان دائم الانفعال، ولا يمكن أن يتَّصل إلَّا إذا انفعل. لذلك قد تطال فضائح فيسبوك شططَ السُّلطة وجبروتها، ولكنها يمكن أن تطالَ أيضا أخطاءَ النَّاس ونزواتهم العابرة، إنَّها تصدُّ عن النِّقاش الفكريِّ والتَّداول في قضايا لا أحد يدَّعي اليقين فيها بتصيُّد أخطاء الآخرين وهفواتهم، والأخطاء جزء من الاجتهاد عند مَن يفكِّر. وتلك من أبرز سماتها، إنَّها تُدمِّر، لكي لا تُعيد بناء ما دمَّرته أبداً، فما يُدمِّرُه الحكم الاجتماعيُّ لا يمكن أن يُرَمِّمَه الإنصافُ القانونيُّ.”
في هذا العالم الجديد “فَقَد الإنسان في زحمة الاتّصال الدائم ذاكرته وضيَّع ذكرياته وأحلامه، ونسي ما كان يهفو إليه”، وهو اليوم “مشدود بشكل دائم إلى الجاهز في الشاشة، أي ما تَعْرضه فيديوهات الرُّوتين اليوميِّ والعُري الخاسر والتَّأثير بالمؤهِّلات الأماميَّة والخلفيَّة والكثير من برمجيَّات التَّجسُّس والتَّلصُّص، فهي التي تشكِّل إيقاعَ حياته، إنَّها لحظات تُعاش كما لو أنَّها تتحقَّق خارج الزَّمن ضمنَ فضاء غير مرئيٍّ يوجد خارج سياقات التَّواصل والدَّلالة”.
هذه الزمنيَّة المختلفة التي “تتشكَّل وتضمحِلُّ وتنبعث من جديد مع كلِّ اتِّصال”، توجد “خارج (القدر الإنسانيّ)، كما فَصَّلَتِ القولَ فيه الأساطيرُ والأديان السَّماويَّة والخرافات الشَّعبيَّة؛ فما يُعرَض في الشَّاشات ليس ذاتاً تتحرَّك ضمنَ فضاءٍ عموديٍّ تستوعبه العين في كلِّ أبعاده، إنَّها مجرَّد انعكاسات عابرة في العين. إنَّها حالة من حالات الانتشاء بالوهم والاستيهام هرباً من حقيقة الوجود وتعقيداته.”
إذن، لقد خلق هذا “الفضاء الافتراضي” نماذج فُرْجوية جديدة تعرضها الشبكات الاجتماعية بسخاء على العين، وهي: “بْروفة” مُسَلية تُمكن “الحائرين” و”الساخطين” و”المتمردين” و”الثّائرين” و”الغاضبين” من تحقيق ثوراتهم في فيسبوك تحت عيون السلطة ورقابتها وربما في حمايتها، فهي التي تتحكم في غالب الحالات في صبيب التمرد والاحتجاج، وتوجِّهه ذات اليمين وذات اليسار وتتحكم في الشّدة واللّين في العقائد وفق موازين قوى هي الضمانة على توازنها”.
وقدر الأكاديمي أن “الشفافية المطْلقة” الحالية في وسائل التواصل الاجتماعي قد لا تكون “مختلفة كثيرا عن محاكم التفتيش القديمة أو عن المكارثية التي روَّعت أمريكا في النصف الثاني من القرن العشرين”، واستشهد هنا بسؤال لمؤِّلف الكتاب المترجَم: “هل سبيلي إلى أن أكون نزيهاً هو أن أخضع للمراقبة على مدار الساعة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا معناه أنهم اخترعوا نزاهة مستبدّة”.
كما كشف بنكراد أنه “على عكس ما يبدو في الظَّاهر”، بدل أن تقود هذه الحالة التواصلية إلى “الإعلاء من شأن الإنسانيِّ في الإنسان؛ فإنَّها حوَّلته إلى كيان مُحدَّد من خلال “خارج” عارض وبارد، يشكو الخصاص في الحميميَّة وفي الدِّفء وحب الناس”، وقدمت له حياة “لا يمكن أن تُعاش في السِّرِّ، إنَّها تُقدِّم نفسها حافية، كما يقتضي ذلك الكشف والعُري والشَّفافية. ولن يطول بنا الزَّمان حتَّى يترعرع بين ظهراننا جيل يجهلُ كلَّ شيء عن الحميميَّة والحياة الخاصَّة. إنَّه جيل سيتعرَّف على الحياة في اللَّوحة أو الشاشة قبل أن يَرى تفاصيلها في محيطه. سيتعلَّم كيف ينتمي إلى الحياة كما تقولها الصُّور، لا كما تقولها الأشجار وهي تنمو والورود وهي تزهر وتذبل في حدائق المدينة أو بساتين الأرياف.”
المصدر: وكالات