يرى محمد عصام لعروسي، المدير العام لمركز منظورات للدراسات الجيو-سياسية بالرباط، أن النظريات العلمية التقليدية لم تستوعب كل المخاطر الدولية والتهديدات الهجينة التي باتت تداهم الأنظمة الدولية والإقليمية، لافتا إلى أن “التهديدات والحروب الهجينة يكتنفها العديد من التعقيدات المفاهيمية والارتباطات التي أحدثها التطور على مستوى مصادر التهديد ومحددات اللايقين وانعدام الأمن من خلال الكشف عن الحركيات السببية المنتجة لجملة المصادر المختلفة للخوف وعدم الاستقرار”.
وأضاف الخبير في العلاقات الدولية والشؤون الأمنية وتسوية النزاعات، في مقال له نشر بالمجلة العسكرية الاستراتيجية “درع الوطن” الإماراتية، بعنوان “التهديدات الهجينة وتغيير البنيات الأمنية للمجتمع الدولي”، أن “التهديدات الهجينة والتهديدات اللاتماثلية كمفاهيم جديدة ساهمت أكثر من غيرها في بروز مضامين جديدة للأمن، ومن جهة أخرى كمصادر قامعة لضبط حدود مجالات جغرافية آمنة تحقق الأمن بكل مستوياته الفردية والوطنية”، مشيرا إلى أن “هذه التهديدات تحاول تغيير الخرائط وتغيير المفاهيم الأمنية والعسكرية وخلق بنيات ناشزة تعيد من جديد إنتاج لعبة التقطيع والتفكيك والانتشار وخلق بيئات غير آمنة تفشل العديد من الدول في التفاعل معها”.
وصنف لعروسي الانفجارات الغامضة تحت مياه البحر، والهجمات السيبرانية مجهولة المصدر، والحملات الموجهة على شبكة الإنترنت ضمن “التهديدات الهجينة” المؤسسة للأنواع الجديدة من التهديدات والمخاطر الأمنية الدولية، موضحا أن “أهم السمات المميزة للتهديدات الهجينة هي أنها تحدث بشكل أكثر غموضا وخفاء، ولكنها في العادة ليست أقل خطرا وضراوة في تحقيق النتائج والتداعيات الوخيمة على الأمن والسلم الدوليين، كما أن طبيعتها في الكثير من الأحيان تجعل من الصعب جدا تحديد من يقف وراءها”.
نص المقال:
لا شك أن منطلقات النظريات التقليدية في العلاقات الدولية كالمدرسة الواقعية والليبرالية، لم تستطع أن تستوعب كل المخاطر الدولية والتهديدات التي باتت تداهم الواقع الدولي بكل قوة محدثة ارتدادات مزلزلة على مستوى بنيات النظام الدولي والإقليمي وعلى المستوى العلائقي الدولي، كما أن التهديدات والحروب الهجينة يكتنفها العديد من التعقيدات المفاهيمية والارتباطات التي أحدثها التطور على مستوى مصادر التهديد ومحددات اللايقين وانعدام الأمن من خلال الكشف عن الحركيات السببية المنتجة لجملة المصادر المختلفة للخوف وعدم الاستقرار، وبالضبط التهديدات الهجينة والتهديدات اللاتماثلية كمفاهيم جديدة ساهمت أكثر من غيرها في بروز مضامين جديدة للأمن، ومن جهة أخرى كمصادر قامعة لضبط حدود مجالات جغرافية آمنة تحقق الأمن بكل مستوياته الفردية والوطنية.
إذن، الحديث عن التهديدات الهجينة يجعل من جانب التأصيل النظري في مجال العلوم الأمنية أمرا عسيرا، على اعتبار حجم التقاطعات التي تشمل العديد من المجالات واختلاف المنظورات الأمنية والاستراتيجيات لمواجهة الظواهر الطارئة، مع المحافظة على الأوضاع الجيو-سياسية القائمة، حيث إن التهديدات اللاتماثلية تحاول تغيير الخرائط وتغيير المفاهيم الأمنية والعسكرية وخلق بنيات ناشزة تعيد من جديد إنتاج لعبة التقطيع والتفكيك والانتشار وخلق بيئات غير آمنة تفشل العديد من الدول في التفاعل معها، وهذه الدول تكيف عادة بالدول الفاشلة، التي تضعف فيها بل تغيب الدول المركزية وتنتشر فيها مظاهر عدم الاستقرار.
بعبارة أخرى، إذا أردنا أن نستوعب دور التهديدات الهجينة في إحداث التغيير المحلي والمناطقي والدولي، يلزم علينا التشبث بمقاربة متعددة الأبعاد والتخصصات (Interdisciplinary Approach) من خلال استعراض أهمية الدراسات النقدية في العلوم الأمنية وأهمها النظرية البنائية ونظرية التعقيد (The Complexity Theory) في فهم أعمق للظاهرة التي أصبحت تتناسل كالفطر، وتفرض على الدول تبني تصورات غير تقليدية واستراتيجيات للمواجهة تحتمل استخدام الطرق المباشرة وغير المباشرة، فالمهم هو تطويق ومحاصرة التهديدات الهجينة وجعلها تحت السيطرة.
أولا: التهديدات الهجينة وأشكال الصراع
انفجارات غامضة تحت مياه البحر، هجمات سيبرانية مجهولة المصدر، وحملات متقنة على شبكة الإنترنت تهدف إلى تقويض الأنظمة الغربية؛ كل هذه الأشياء تصنف بأنها “تهديدات هجينة” تؤسس لأنواع جديدة من التهديدات والمخاطر الأمنية خصيصا لاستهداف ذلك النوع الجديد نسبيا من الحروب، الذي دفع بحلف الشمال الأطلسي إلى الحديث لأول مرة في تقاريره عن خطورة هذه التهديدات غير التقليدية على منظومة الاتحاد الأوروبي، إذ تسبب انفجار قوي وقع تحت مياه بحر البلطيق في إحداث ثقوب ضخمة في خط أنابيب نورد ستريم للغاز الطبيعي بين سواحل كل من الدنمارك والسويد، وكان الخط قد أُنشئ لنقل الغاز الروسي إلى شمال ألمانيا. ورغم مسارعة موسكو إلى نفي أي مسؤولية لها عن الانفجار، إلا أن شكوك الغرب تركزت حول الدوافع الروسية المحتملة لحرمان الغرب من الطاقة كعقاب له على دعم أوكرانيا في أعقاب الغزو الروسي لها في فبراير من العام 2022.
كما تدخل في باب التهديدات الهجينة، فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وبالرغم من أنه لم يتم اكتشاف ذلك في حينه، ولكن في أعقاب انتخابات عام 2016 الرئاسية، توصل المحققون إلى أن روسيا تدخلت بشكل منسق وممنهج-وهو أمر تنفيه موسكو-بهدف تقويض فرص هيلاري كلينتون وزيادة فرص دونالد ترامب في الفوز في الانتخابات الرئاسية.
ويذهب العديد من المختصين إلى أن هذا الأمر تحقق من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، عبر إنشاء حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي يتحكم فيها نشطاء سيبرانيون يعملون من مدينة سانت بطرسبرغ. وقد عملت هذه الفرق السيبرانية على نشر المعلومات المضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويشمل ذلك الترويج المتعمد لخطاب زائف بديل يستميل بعض شرائح المجتمع. هذه الظاهرة تفاقمت منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث بات ملايين الأشخاص-ليس فقط في روسيا وإنما في بلدان غربية أيضا-يتقبلون السردية الروسية التي تصور الغزو على أنه وسيلة ضرورية للدفاع عن النفس.
ربما كانت من أهم السمات المميزة للتهديدات الهجينة هي أنها في الغالب لا تشمل هجمات “حركية”-كأن يطلق شخص النار باستخدام سلاح-فهي تحدث بشكل أكثر غموضا وخفاء، ولكنها في العادة ليست أقل خطرا وضراوة في تحقيق النتائج والتداعيات الوخيمة على الأمن والسلم الدوليين، كما أن طبيعتها في الكثير من الأحيان تجعل من الصعب جدا تحديد من يقف وراءها، مثل الهجوم السيبراني الضخم الذي تعرضت له استونيا عام 2007، أو انفجارات أنبوب الغاز تحت بحر البلطيق سنة 2023 على سبيل المثال. من يرتكب تلك الأعمال ينجزها بدقة متناهية وبشكل يضمن ترك أقل عدد ممكن من الخيوط التي يمكن تتبعها لمعرفة الفاعل. إذن، التهديدات الهجينة هي مستوى آخر من الصراع يتجاوز حدود الفهم البسيط لميكانيزمات الصراع بين الكيانات الدولية وينتقل إلى لعبة ذات أبعاد غير مهيكلة أو مؤسساتية، بل قد تنحو في الكثير من الأحيان بعيدا عن سلطة التشريعات والقوانين وتسهم في مضاعفة وتضخيم اللايقين الأمني والاقتصادي.
ثانيا: الحرب الهجينة تهديد غير معلن وبأساليب متحورة
تعرف مؤسسة “راند” الحرب “الهجينة” بأنها “نشاطات خفية قابلة للإنكار تدعمها قوات تقليدية أو نووية بغرض التأثير على السياسة الداخلية للبلدان المستهدفة”. كما شرحت مجلة “إيكونوميست” الأميركية، في تقرير لها، هذا المفهوم وتاريخه، وأوضحت إلى أي مدى يمكن تطبيقه على طريقة تعامل روسيا مع أوكرانيا. ويشير التقرير إلى أنه يمكن وصف ما فعلته روسيا في القرم وأوكرانيا بأنه يندرج في نطاق “الحرب الهجينة”، وذلك عندما ظهر في القرم في عام 2014 ما عرف باسم “رجال خضر صغار” بدون شارة عسكرية تمكنوا من السيطرة على شبه الجزيرة.
إن فكرة إخضاع العدو دون قتال ليست جديدة، بل ترجع إلى عصور قديمة خلت، فيكفي أن نرجع إلى كتاب “فن الحرب”، للمفكر العسكري الصيني سن تزو على سبيل المثال، الذي نشر قبل القرن الخامس الميلادي، لنفهم الشيء الكثير عن الحرب النفسية، حيث يشير إلى أن “إخضاع العدو دون قتال هو ذروة المهارة”.
وشاع المفهوم الحديث للحرب الهجينة بواسطة الكاتب فرانك هوفمان، الجندي السابق في مشاة البحرية الأميركية والباحث الدفاعي، الذي كتب ورقة بحثية عام 2007 عن تغير الصراعات وعدم وضوح الخط الفاصل بين المدنيين والعسكريين. وحسب تصوره، تتضمن الحروب الهجينة مجموعة من أنماط الحرب المختلفة، بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات والتشكيلات غير النظامية والأعمال الإرهابية، ضمنها العنف العشوائي والإكراه والفوضى الإجرامية. ويمكن أن يكون هذا التنوع في الإجراءات من عمل جهة واحدة. وحسب هوفمان، فالحرب الهجينة هي في الأساس شكل من أشكال الحرب غير المتكافئة، حيث يسعى طرف إلى تجنب نقاط القوة في خصم أكثر قوة. وإذا كان تعريف هوفمان الأصلي ينطوي على خلط أشكال مختلفة من القتال، فقد تم استخدام مصطلح “الهجين” بمرور الوقت بشكل فضفاض للإشارة إلى أساليب غير قتالية، وأصبح هناك استخدام لمصطلحات مثل “الإجراءات الهجينة” أو “التهديدات الهجينة”.
ويصف المركز الأوروبي للتميز لمكافحة التهديدات الهجينة بهلسنكي الحرب الهجينة بأنها “تتسم بالغموض، حيث يطمس الفاعلون المختلطون الحدود المعتادة للسياسة الدولية، ويعملون على مختلف الواجهات بين الخارج والداخل والقانوني وغير القانوني والسلام والحرب”.
ثالثا: التهديدات الهجينة واللايقين الاقتصادي
أصبحت الجهات الفاعلة في مجال التهديد الهجين، مثل روسيا أو الصين، تلجأ أكثر من أي وقت مضى إلى المجال الاقتصادي لإحداث التغييرات الكبرى التي تخدم مصالحها، خاصة في زمن الصراع والتنافس بين الدول. ويجادل بعض المفكرين من أجل تعديل الاستجابات السياسية في المجال الاقتصادي، ويدعون إلى المضي قدمًا في تحصين السياسات الاقتصادية وتعزيز استراتيجيات الأمن القومي.
وبينما تبحث الجهات الفاعلة غير النظامية عن نقاط الضعف في الأنظمة السياسية في جميع أنحاء العالم، يلاحظ أن آليات الإكراه الاقتصادي آخذة في التزايد بشكل كبير، حيث هناك من يرى أن التهديدات الاقتصادية الهجينة هي جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات البديلة لدى الدول غير التابعة للمعسكر الغربي، فهي أداة فعالة من حيث أهمية التكلفة لتعزيز الأيديولوجية السياسية والانتصار لقضايا الدول التي لا تدين بالولاء للدول الرأسمالية الغربية.
وفي مجال الردع الاقتصادي، فإن نفوذ الصين في الاقتصاد العالمي في حالة تغير مستمر ويتحول تدريجيا ليصبح أكثر صدامية، باعتبارها صاحبة ثقل تجاري عالمي، يمكننا أن نتوقع أن تحتل الصين مركز الصدارة على أساس كونها جهة فاعلة تهدد العالم من خلال الاقتصاد الهجين، وقد تواصل الصين الاستفادة من إمكانات التهديد الاقتصادي لتعزيز أجندتها الاستراتيجية الخاصة ولتحقيق المزيد من النقاط على مستوى غزو الأسواق العالمية.
وتتمثل أمثلة العدوان الهجين أيضا في المحاولات المتعمدة للتلاعب بسلاسل التوريد من أجل الإنتاج، والهجمات على البنية التحتية الحيوية، وصولا إلى تسليح الموارد الحيوية. وقد أظهر الرئيس الروسي بوتين، على سبيل المثال، تصميمه على الاستفادة من أي أداة متاحة له لخلق انقسامات عالمية، سواء كانت عبر إمدادات الحبوب أو الغاز”، وهو مثال آخر للنشاط الاقتصادي الهجين الذي ساهم في انبعاث العديد من الشكوك حول الأمن الاقتصادي وهدد العالم بأسره من خلال اختلال سلاسل إمدادات الغذاء، وينعكس بشكل سلبي على اقتصادات دول الجنوب التي تستورد أهم المنتجات الطاقية والغذائية.
للتغلب على زوابع التغيير الهجين في المجال الاقتصادي، يجب على صناع السياسات الاقتصادية العمل على إعادة تنشيط المبادئ الاقتصادية العادلة والشفافة والقائمة على القواعد المعيارية والقانونية، وفي نهاية المطاف، سوف تكون تكاليف الاستجابات المنسقة للمخاطر أقل تكلفة من التقاعس عن العمل وسوف ينعكس الأمر على أداء الأسواق العالمية بشكل واضح.
رابعا: التهديدات الهجينة واستراتيجية المواجهة
إذا كانت الاستراتيجية، في أي عصر، هي “فن خلق القوة”، فإن ما يسمى الحرب الهجينة هي محاولة الجهات الفاعلة التحريفية إنشاء واستغلال كل شكل من أشكال السلطة لتحقيق أهدافها وغاياتها التخريبية.
إن النجاح في مواجهة هذه التحديات يتطلب تفكيراً متأنياً واستراتيجية محسوبة وتوليد أفكار وتصورات واضحة لدى الدول لمواجهة التحدي المتزايد المتمثل في الحرب الهجينة المنبثقة من مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة الرجعية. وبشكل أكثر تحديدًا، فإن الغرض هو وضع أسس مفاهيمية لمساهمة قوات الدفاع الوطني والمجتمع الدولي في مواجهة كافة التحديات الهجينة المهددة للأمن القومي.
إن معضلة التهديدات الهجينة التي تختلف عن الحروب الهجينة من الناحية المفاهيمية، تتطلب قراءة واعية واستشرافا جيدا لتداعياتها المركبة والمعقدة على الدول والمجتمعات، فإذا تم التسامح مع مثل هذا النشاط العدائي واستيعابه، فإن الآثار السياسية تكون بداية في حدها الأدنى، لكن مع تفاقم الظاهرة، فإن الأمر يتطلب مواجهة مباشرة للقضاء عليها، وتطوير الاستراتيجيات والقدرات وفقًا لخطورة الظاهرة. هذا الاختيار يعتمد على مدى قدرة التهديدات الهجينة على الإضرار بالمصلحة القومية. وقد تكون التهديدات الهجينة ضارة نسبيا وليس بشكل مطلق، ومع مرور الوقت يمكن أن يتسبب استمرار هذه التهديدات في مخاطر وأضرار تراكمية لأسس ووظائف المجتمع والدولة، وقد يشمل ذلك تقويض ثقة المواطنين بدولهم، أو الأضرار التي قد تلحق بالبنية التحتية الحيوية، أو تآكل القواعد والأعراف، والنمو الاقتصادي، ومدى جاهزية قواعد الدفاع الوطني لحسم المعركة لفائدة الشرعية الدولية.
في معظم الحالات، لن يكون الدفاع والمقاربة الأمنية من الحلول النهائية والشاملة لمواجهة التهديدات الهجينة، على الرغم من أنها غالبًا ما تكون ضمنية، فالخيارات الدفاعية والهجومية التقليدية هي جزء من استجابة الدولة بأكملها لمكافحة التهديدات الهجينة، وقد تكون الاستراتيجيات الدفاعية مطلوبة فتتوفير خيارات محددة غير الحرب للتأثير على الدول أو الجهات المعادية عن طريق “الإكراه”، “التعطيل”، “الرفض”، “الردع”. ومع ذلك، فإن قوات الدفاع ليست مصممة في المقام الأول للعمل في هذه المنطقة الرمادية لتوفير خيارات أقل من الحرب والمواجهة المباشرة. إن تنمية القدرة على المواجهة قد يتطلب في النهاية الكثير من المرونة والاختيارات البديلة ومقايسة المهام مع القدرات الموجودة فعليا. علاوة على ذلك، فاستخدام قوات الدفاع للقيام بعمليات دون الحرب يحمل في طياته مخاطر التصعيد المضاد وما يتطلب الأمر من دراسة متأنية لاتخاذ القرار الصائب.
المصدر: وكالات