في الوقت الذي تزداد حالات العنف ضد النساء بالمغرب، لا نشهد ازديادا في أعداد المراكز المكلفة باستقبال هذه الحالات، مما يطرح بشكل جدّي إشكال إيواء النساء المعرضات للعنف. فعلى الصعيد الوطني لا يوجد سوى 86 مركزا، في المقابل يتزايد يوما عن يوم عدد شكايات النساء اللائي يتعرضن للعنف؛ فحسب تقرير صادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مارس الماضي، بلغ الرقم ما مجموعه 64251 شكاية مسجلة لدى النيابات العامة عام 2020، وسجلت سنة 2021 ما مجموعه 96276 شكاية، وخلال سنة 2022 بلغ الرقم 75240 شكاية.
هسبريس زارت إحدى الجمعيات النسائية المغربية التي تعنى بتوفير الدعم للنساء ضحايا العنف، وهي عضو في شبكة الرابطة “إنجاد” ضد عنف النوع الاجتماعي، المنضوية تحت لواء فيدرالية رابطة حقوق النساء.
تهتم هذه الجمعية الحقوقية باستقبال ودعم النساء المُعفنات اللائي يلجأن إليها في فروعها السبعة في البلاد، أو يتواصلن معها من خلال تسعة مراكز استماع تابعة لها.
من بين الخدمات التي توفرها الشبكة، الإيواء، “وكل ما يرتبط به من خدمات تهدف بالأساس لحماية الوافدات والعمل على أن يتجاوزن وضعية العنف التي يعانين منها”، بحسب تعريف القائمين عليها، لكنها لا تتوفر إلا على مركز وحيد هو مركز “تيليلا”، وهي كلمة أمازيغية تعني “الحرية”.
المركز الواقع بمدينة المحمدية عبارة عن شقة لا تختلف كثيرا عن المنازل المغربية، بمطبخ وحمام وغرف نوم وغرفة جلوس فسيحة.
خلال زيارتنا، صادفنا ثلاث نساء مع أطفالهن، لكن المشرفة عن المشروع أشارت إلى أن العدد كان أضعافا خلال بداية الأسبوع.
ورغم أن طاقة الشقّة الاستيعابية هي ثماني نساء وأطفالهن فقط، لكن في كثير من الأحيان يتم تجاوز هذا الرقم، ليصل إلى عشرين سيدة، يتم إرشادهن للمركز من خلال فروع الجمعية المنتشرة عبر ربوع المملكة، أو من خلال مراكز الاستماع التابعة لها.
تقول خديجة أبراشو، مسؤولة بمركز الاستماع ومركز الإيواء “تيليلا”: “نشتغل مع النساء ضحايا العنف بمختلف أنواعه، سواء الجنسي أو الجسدي أو النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، نستمع لهن ونواكبهن برفقة الأخصائي/ة النفسي/ة، ونحاول حماية النساء من البقاء في الشارع حتى لا يتعرضن لعنف آخر أو أي خطر يمكن أن يهدد حياتهن”.
تؤمّن هذه الدار الإيواء الاستعجالي لمدة تتراوح ما بين شهر وثلاثة أشهر. خلال هذه المدة “نحاول تمكينهن اقتصاديا والبحث عن عمل لهن أحيانا أو مساعدتهن على الإيجار، وحتى المساعدة في حالات القضايا المرفوعة أمام القضاء، ولا نترك المرأة تغادر حتى نجد لها بديلا “، تقول أبراشو.
في هذا المركز “تيليلا” التقينا نساء مكلومات، ليس لهن سند، لكل منهن قصة “مأساوية” تختلف عن الأخرى، لكن القاسم المشترك بينهن أنهن “أميات” و”يتيمات الأب”.
ثلاثة أيام من التعذيب
من بين المقيمات هنا “إ.ح”، 27 سنة، أم لطفل في السادسة من عمره وحامل في شهرها السابع، لم يقها حملها هذا من التعرض لعنف كاد يؤدي إلى موتها، دام لثلاثة أيام متواصلة، نقلت على إثره إلى المستشفى، أما الزوج الجاني فعاد إلى مكانه المعتاد: السجن.
تروي “إ.ح” قائلة: “تزوجت في سن صغيرة جدا، قدمت من قريتي البعيدة إلى مدينة المحمدية، ولم تمض أشهر حتى سجن زوجي في قضية مخدرات، تركني حينها حاملا، ولم يغادر سجنه إلى أن أنجبت ابني الأول، عاش معي سنتين فقط، ليسجن من جديد في قضية أخرى، ثم سجن مرة ثالثة”.
عاشت “إ.ح” طوال فترات سجن زوجها برفقة أسرته، وكانت تتكفل هي بإعالة ابنهم، أما حادثة تعذيبها فجرت بعد بضعة أشهر فقط من خروجه الأخير من السجن.
تتذكر “إ.ح” بمرارة تلك الأيام الثلاثة التي رأت خلالها الموت بدموع منهمرة على وجنتيها فوق ثلاث علامات لضربات سكين خلّفها الجاني قبل أن يحرق جسدها بماء ساخن، ناهيك عن تلقيها الضرب الشديد في كل أنحاء جسمها.
حكمت المحكمة على الزوج بالحبس النافذ سنتين ونصف السنة لتعنيفه زوجته، لكن ماذا سيحدث عندما تنتهي محكوميته؟ “كلما أتذكره أموت خوفا.. لا أدري ماذا سيكون مآلي حينها؟”، تقول الضحية.
وعن وجودها بمركز “تيليلا”، قالت “إ.ح” إن المركز كان ملاذها الوحيد رفقة طفلها الصغير؛ فبعد مغادرتها المستشفى وجدت نفسها تائهة لا تدري أين تتجه، فأرشدتها الممرضات هناك إلى هذا المركز، و”هنا حظيت بمساعدة قانونية وتكفلت محامية الجمعية بقضيتي، وسأقيم فيه إلى أن أضع طفلي، وعقبها سيساعدونني في البحث عن منزل وعمل لأستقر مع طفليّ”، بحسب قولها.
محاولة الانتحار هرباً من العنف
عانت المرأة الثانية التي التقيناها بمركز “تليلا” من العنف منذ طفولتها؛ فمنذ وفاة والدها وهي في سن 13 سنة أجبرتها والدتها على مغادرة المدرسة من المستوى السادس ابتدائي والعمل لإعالة إخوتها الصغار، لتبدأ مسيرة عذاب طويلة.
تقول “غ. ك” (28 سنة): “كانت ظروفنا صعبة ولا تزال، غادرت مدينتي وذهبت إلى طنجة، اشتغلت كثيرا في المنازل وعانيت الأمرين، بين من يبرحك ضربا ومن يعاملك بإهانة، أمضيت سنوات من العذاب”.
قبل أشهر لم تجد “غ. ك” عملا وطُردت من الغرفة التي كانت تستأجرها لأنها لم تتمكن من دفع سومة الكراء، مما اضطرها للنوم في المحطة الطرقية ليلتين حيث كانت تتضور جوعا، عندها جاء رجل وعرض عليها مرافقته مقابل المال، ففعلت، لتجد نفسها حاملاً بعد أسابيع.
حاولت “غ. ك” الإجهاض بكل الطرق الممكنة، تقول بدموع منهمرة: “بل حاولت الانتحار أيضا، فلم يعد لي أي أمل في هذه الحياة، لكن المحاولة باءت بالفشل”.
بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجها، عادت إلى والدتها، لكن الأم طردتها من جديد، لأن “ما تحمله في بطنها سيجلب العار لها ولأبنائها الذكور”، بحسب ما قالت لها، لتتشرد من جديد في الشارع.
تم إرشاد “غ. ك” إلى إحدى الجمعيات بمدينة مكناس، بقيت فيها إلى أن أنجبت طفلها البالغ اليوم شهرين، عقبها تم إرسالها إلى مركز “تيليلا” وهي اليوم لا تدري ما تفعل في المقبل من الأيام.
تقول “غ. ك” وهي تحمل طفلها بين ذراعيها: “لا أرغب في أي شيء، لا أمل لي في هذه الحياة، لا أدري ما الجدوى من البقاء على وجه الأرض، أنا تائهة وحائرة جدا”.
خلال تواجدها بالمركز، تلقت “غ. ك” إرشادا قانونيا بأن تقوم بتسجيل ابنها باسمها، وفقا للمسطرة القانونية التي تتبعها “الأمهات العازبات”، فيما ستنتقل بعدها إلى جمعية التضامن النسوي، التي كانت تشرف عليها الراحلة عائشة الشنا، هناك ستتلقى تكوينا مهنيا، بعد أن تنهيه تبحث الجمعية لها عن عمل وبيت للسكن لتبدأ حياتها من جديد.
مراكز الإيواء.. فرصة للحياة
لم تكن “م. س” (29 سنة) تدري أن الشخص الذي التقته رفقة والدتها وجاء لطلب يدها قصد الزواج، سيتحول إلى وحش يغتصبها في إحدى اللقاءات معه. تروي: “بعد أن تقدم لخطبتي من والدتي، بدأت ألتقيه بين الفينة والأخرى وأتواصل معه، وفي أحد هذه اللقاءات اغتصبني بالقوة في مكان عمله”.
تقول “م. س” إنها لم تكتشف حملها إلى أن مضت أشهره الأولى، فخافت إخبار والدتها وتوجهت إلى الجاني لتعلمه بما وقع، “فاغتصبني من جديد، وسرق هاتفي المحمول الذي يحمل كل الدلائل على أني مرتبطة به وطردني قائلا: [هذا الحمل ليس مني]”، تروي بغصّة.
ظلت كلمتا “الفضيحة والعار” تؤرقان بال “م. س” فهربت من بيت والدتها، وظلت لأشهر لدى صديقة لها، أرشدتها إلى جمعية “التضامن النسوي” بالدار البيضاء التي تعنى بالأمهات العازبات، لكن الجمعية رفضت استقبالها حينها لكونها لم تضع مولودها بعد، وأرشدتها إلى مركز “تيليلا” الذي لجأت إليه خلال شهرها الأخير من الحمل إلى أن وضعت.
تشكل مراكز الإيواء هذه فرصة للحياة للعديد من النساء كما الثلاثة اللواتي تحدثنا إليهن، مع تخلي عائلاتهن عنهن أو تسببها في تعنيفهن. ورغم أهمية هذه المراكز ودورها الكبير في مساندة النساء المُعنّفات، إلا أنها تواجه صعوبات مالية كبيرة تجبرها على عدم القدرة على أداء دورها في العديد من الأوقات.
تقول سعاد بنمسعود، منسقة الرابطة “إنجاد” المسؤولة عن المركز: “تحديات عدة تواجهنا لضمان استمرارية عمل المركز، أهمها توفير الموارد المالية، فهناك حاجيات يومية تقدم للنساء من أكل وتغذية وتطبيب ومتابعة قانونية ونفسية تتطلب مصاريف مهمة”.
أغلب الضحايا اللواتي يلجأن إلى المركز ليس لديهن موارد مالية أو دعم من العائلة أو المحيط. ويعتمد المركز في تمويله على المساعدات والتبرعات التي يتلقاها من القطاع العام، كالحكومة ووزارة التضامن، أو من القطاع الخاص، وأيضا تبرعات من قبل محسنين.
“بفضل دعم الشركاء والمحيط وأصدقاء المركز، نستطيع مواكبة هؤلاء النساء وإيجاد فرص عمل لهن ليبدأن حياتهن من جديد، فالإيواء هو حلقة مهمة في التكفل بالنساء لضحايا العنف، بحسب القانون 103.13 الذي يعتبر الإيواء من التدابير الحمائية التي يجب أن تتوفر للنساء ضحايا العنف اللائي يكن في وضعية عدم السلامة ويكون هناك خطر على حياتهن وأطفالهن”، تقول بنمسعود، مشيرة إلى أن تجربة العنف ليست سهلة “فالتعافي منها يحتاج إلى تدخل متكامل يشمل الجانب الاقتصادي إضافة إلى النفسي والاجتماعي”.
وورد في نص المادة العاشرة من القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء: “تحدث خلايا التكفل بالنساء ضحايا العنف بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف وبالمصالح المركزية واللاممركزة للقطاعات المكلفة بالصحة وبالشباب وبالمرأة وكذا للمديرية العامة للأمن الوطني والقيادة العليا للدرك الملكي”، وأحدثت على مستوى مديرية المرأة “الخلية المركزية للتكفل بالنساء ضحايا العنف بالقطاع المكلف بالمرأة”، بموجب القرار الوزاري رقم 73-19 الصادر في 24 شتنبر 2019.
بحسب معطيات وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، “تعمل الخلية المركزية بالوزارة على تنسيق التدخلات الاستعجالية لحل وضعيات نساء من مختلف المجالات الترابية اللواتي يتعرضن للعنف والطرد، وذلك بالتعاون مع مصالح الأمن والنيابة العامة، مع تسريع الحصول على الإيواء المؤقت عند الحاجة. إضافة إلى ضمان التتبع المباشر لحالات العنف المبلغ عنها والمتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي”.
وأكدت وثيقة صادرة عن الوزارة أن “الخلية المركزية تمكنت من توفير الدعم اللازم للعديد من الحالات المرصودة والمبلغ عنها، وذلك في إطار تنسيق مع مراكز الاستماع وباقي الفاعلين في جميع ربوع المملكة قصد التدخل لتوفير الحماية اللازمة سواء بتوفير خدمة الإيواء للحالات المستعجلة أو خدمات الدعم النفسي والقانوني، أو باقي إجراءات الحماية، بتنسيق مع مصالح الشرطة والدرك الملكي والنيابات العامة وكذا السلطات المحلية”.
ويتم إرشاد النساء المعنفات إلى هذه المراكز، سواء من طرف عناصر الأمن والدرك الملكي في حال تدخلهم، أو من قبل المساعدين الاجتماعيين بالمحاكم وحتى المستشفيات. وقد تلجأ إليها النساء المعنفات بشكل شخصي عبر التواصل مع مراكز الاستماع أو أحد أفراد الجمعية.
ويعتبر دعم مراكز الاستماع والتوجيه القانوني للنساء ضحايا العنف أحد أهم المحاور التي تحرص الوزارة على استمراريته، بحسب بيانها، وذلك لتعزيز وتجويد خدمات التكفل بالنساء ضحايا العنف، ولضمان ديمومة الخدمات التي تقدمها هذه المراكز لفائدة هذه الفئة من النساء.
ولهذه الغاية، اعتمدت الوزارة مقاربة خاصة لدعم لهذه المراكز، “ترتكز على توفير دعم مالي يمتد على مدى 3 سنوات، عوض سنة واحدة، لفائدة المراكز التي يتم انتقاؤها برسم كل سنة مالية”، وهكذا تم دعم 288 مركزا للاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف خلال الفترة ما بين 2012 و2020 بما مجموعه 60.1 مليون درهم.
من المركز إلى الحياة
رغم الصعوبات التي تواجهها مراكز الإيواء في المغرب، إلا أنها تنجح في العديد من الأحيان في منح الحياة والأمل لضحايا العنف، وتمُكنهن من العودة إلى الحياة.
من بين هؤلاء الناجيات، فاطمة الزهراء (23 سنة) من مدينة القنيطرة، التي جاءت إلى المركز بعد تعرضها للاستغلال الجنسي من طرف أحد الأشخاص نتج عنه حمل رفض الجاني الاعتراف به.
لجأت فاطمة الزهراء إلى فرع جمعية إنجاد بمدينة القنيطرة، ومن هناك تم نقلها إلى مركز تيليلا حيث ظلت إلى حين ولادة طفلتها البالغة من العمر اليوم أربعة أشهر.
عن تجربتها، تقول فاطمة: “عدت إلى حياتي المعتادة، تلقيت كل العناية اللازمة ووجدوا لي سكنا وعملا في أحد أشهر المقاهي بالمدينة، لولا مساعدتهم لما استطعت اليوم أن أنعم بالاستقرار من جديد”.
المصدر: وكالات