قال الناقد المغربي محمد بنعزيز إن هناك فرْقا بين من يكتب عن الأفلام من الداخل، فيكتب عن السيناريو والإخراج وتحليل الأفلام معتمدا مَراجع نظرية وتطبيقية عن الفن، وبين من يمرّ أمام قاعة سينما فيتغنى بسحر الفن السابع في جمل طويلة عامة تفتقر للمؤشرات، موضحا أن “النوع الأول يقدّم من الكتابة معرفة بالفن السابع ويحاول بمنهج بيداغوجي توصيل معان موضوعية جديدة للقارئ، بينما يقتصر النوع الثاني من المونولوج الإنشائي على إطلاق أحكام ذاتية عامية”.
وأشار بنعزيز، في مقال له بعنوان “ثلاثة كتب سينمائية تقدم معرفة متكاملة عن الكتابة والإخراج والمونتاج”، إلى أن كين دانسايجر وبات كوبر يؤكّدان أن “كتابة سيناريو تعني الكتابة لوسيط يستخدم الصور المتحرّكة لكي يوحي بالمعنى، وهذه الصور، والطريقة التي تجتمع بها، هي لغة السينما”.
وبعد تناوله مجموعة من الجوانب المرتبطة بكتاب “سيناريو الأفلام القصيرة” للكاتبيْن دانسايجر وكوبر، وكتابيْ “فكرة الإخراج السينمائي.. كيف تصبح مخرجا عظيما” و”تقنيات مونتاج السينما والفيديو.. التاريخ والنظرية والممارسة” لكاتبهما دانسايجر، يؤكد بنعزيز أن الكتب السينمائية الثلاثة تتكامل لتقدّم للقارئ المهتم معرفة متكاملة عن الكتابة والإخراج والمونتاج، وهذا ضروري لكل سينمائي لكي لا يخلط بين الخواطر والمعرفة.
هذا نص المقال:
تنقسم بنية سيناريوهات الأفلام القصيرة إلى نوعين:
أولا، سيناريو الرحلة وفيه شخص يبحث عن مغامرة، لذلك ينطلق. هنا المغامرة مقصودة.
ثانيا، سيناريو المناسبة الطقسية، وفيه شخصية لا تبحث عن المغامرة، بل يظهر شخص ما بالصدفة في حياتها، شخص غريب يحمل مصباحا سحريا أو وَعْدا بالتغيير.
في الحالتين سيكون هناك اكتشاف تقوم به شخصية ما تعيش بين خيّارين: إما الاستمرار في حياتها العادية أو الارتماء في المغامرة.
لكسر الروتين تغامر الشخصية لتحقيق أهدافها. وفي الحبكة، تؤدي المغامرات إلى عكس المخطط له. من هنا يولد الغموض. “إن الأفكار الغامضة هي المادة الخام التي تصنع منها القصص الجيدة”. يتجلى هذا في الحوار أيضا، يقول الكاتبان: “إن الناس في الحياة يُفصحون عن أنفسهم بشكل غير واع طوال الوقت، وإن ما يتكشّف للملاحظ المدقق قد يبدو مناقضا لما رآه للوهلة الأولى”، هكذا ينكشف بروفايل الشخصية تدريجيا.
للوصول إلى هذا المستوى يجب على كُتاب السيناريو اقتباس الأشكال الحكائية التي صمدت أمام الزمن في كل الحضارات، إذ “لا تكاد تكون هناك حضارة لم تُعط القصة ما تستحقه من قيمة”. لهذا “وجدنا نحن مدرسي السيناريو أن الأساطير والحواديث مفيدة للكاتِب المبتدئ في عالم السيناريو”.
ما القصة؟
“تشبه القصة رياحا تمر من خلال شقوق حائط، إنها دليل على الاتساع الشاسع وراءها، وهي تتيح الحركة خلال الزمان والمكان…”، وتلك الشقوق هي التي يتسرب منها ما تم اختياره وانتقاؤه وتركيبه ليدل على ذلك الاتساع.
هذا ما يقوله كين دانسايجر وبات كوبر في كتابهما “سيناريو الأفلام القصيرة” (ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2011).
هذا الكتاب مثال للكتابة العميقة التي تسمح لعشاق السينما بتطوير معارفهم.
يبدأ كتاب “سيناريو الأفلام القصيرة” باستشهاد من كتاب أ. م. فورستر “أركان القصة”، ويغتني باستشهادات من “فن الشعر” لأرسطو للتأكيد على أن السرديات في السينما هي امتداد للسريات في الأدب.
يوجد فرْق بين من يكتب عن الأفلام من الداخل، يكتب عن السيناريو والإخراج وتحليل الأفلام معتمدا مَراجع نظرية وتطبيقية عن الفن، وبين من يمرّ أمام قاعة سينما فيتغنى بسحر الفن السابع في جمل طويلة عامة تفتقر للمؤشرات. يستخدم ضمير المتكلم عشر مرات فتصير نرجسيته وخواطره موضوعا للمقال. يقدم النوع الأول من الكتابة معرفة بالفن السابع ويحاول بمنهج بيداغوجي توصيل معان موضوعية جديدة للقارئ، بينما يقتصر النوع الثاني من المونولوج الإنشائي على إطلاق أحكام ذاتية عامية.
بهدف تجاوز تلك العموميات الذاتية يعرضُ هذا المقال لمخرج وكاتب خبير بجمل محددة قصيرة واضحة. يستشهد كين دانسايجر بقول كونستانتين ستانيسلافسكي: “إن الفن ليس عاما أبدا، إنه محدّد دائما”. دفاعا عن هذا التحديد قدم دانسايجر تنظيرا وتطبيقا عن الفن في ثلاثة من كتبه. يتحدث عن كتابة السيناريو وطبقات المخرجين وأساليبهم… وفن المونتاج وتاريخه وتطبيقاته.
يقول كين دانسايجر وبات كوبر: “إن كتابة سيناريو تعني الكتابة لوسيط يستخدم الصور المتحرّكة لكي يوحي بالمعنى، وهذه الصور، والطريقة التي تجتمع بها، هي لغة السينما”. لكن قبل البدء بالكتابة هناك سؤال قبلي: “هل ستكون تلك القصة (التي تكتبها سيناريو) ملائمة لكي تُروى أســاسا من خلال الصور؟”. لذلك في السيناريو “تتجسد المشاعر والأفكار في أشكال مادية خارجية”. ويذكر الكاتبان أن المخرج السويدي إنغمار برغمان كان ينطلق من صورة لكتابة سيناريو في كل أفلامه.
هكذا تتداخل الكتابة بالصورة. لتوضيح هذا يقول دانسايجر إن “فكرة الإخراج هي تفسير عميق لكل ما يتضمنه النص ولا يصرح به”، ويضيف أن المخرج “يتحمل تحويل السيناريو المكتوب (الكلمات) إلى صور (لقطات). وهدف الإخراج هو رواية القصة بالقدر الأكبر من التأثير في المتفرج، وهنا يكمن الفرق المخرجين. ويحذر بأن الشخصية الزائفة لا يمكن أن تصنع إخراجا جيدا (كين دانسايجر، “فكرة الإخراج السينمائي.. كيف تصبح مخرجا عظيما؟”، ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2009).
ويميز كين دانسايجر (ولد في 1945، وهو أستاذ السينما والتلفزيون في معهد موريس كانبار للسينما والتلفزيون والوسائط الجديدة) في هذا الكتاب بين ثلاث طبقات من المخرجين:
هناك المخرج الحِرفي والمخرج الجيد والمخرج العظيم. تكتنز أفلام المخرج العظيم بالتورية المريرة وتعدد طبقات التفسير. لتحقيق هذا يحتاج المخرج العظيم أن يكون سياسيا وحرفيا وراوي قصص وفنانا يعايش موضوعه.
حين تتحقق هذه الشروط في المخرج يقدم الكثير بأقل التقنيات في لقطة وليس في مشهد. يستخدم المخرج المُمثل والكاميرا لتحقيق هدفه عبر إرضاء غرور الممثلين للحصول على أفضل أداء لديهم. يعرف كيف يجعل الكاميرا تمنح المتفرج الإحساس بأنها تعيش وسط الأحداث المتقلبة، وسط الصراع.
الدراما هي الصراع، وفي هذا الصراع يُعتبر الفكر السّببي ضروريا لتماسك السرد، ومن هذه السببية تتولد العلاقة بين الحبكة والشخصية.
بعد تملك المخرج هذه المهارات السردية ينتقل كين دانسايجر للحديث عن المسائل التقنية، عن موقع الكاميرا وتنوع العدسات ووظائفها.
وهذا ما ينقلُنا إلى الكتاب الثالث لكين دانسايجر “تقنيات مونتاج السينما والفيديو.. التاريخ والنظرية والممارسة” (ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط 1، القاهرة، 2011). وفيه ميّز كين دانسايجر بين مونتاج التداعي البصري ومونتاج الاستمرارية الكلاسيكية والمونتاج السريالي، الذي وضعه لويس بونويل، ويقوم على كسر الاستمرارية البصرية، بوضع حبكة لا خطية تقوض التوقعات السردية.
لم يكن هناك مونتاج قبل السينما، كانت مدة الأفلام الأولى تمتد ستين ثانية بلا مونتاج. كانت هناك مشكلة الزمن الميت. ثم صارت اللقطات أطول، فظهر المونتاج لتقطيع اللقطات. “أدى القطع المتوازي إلى حل مشكلة الزمن، فليس من الضروري أن نرى الحدث كاملا لكي تتحقق الواقعية، وبسبب القطع المتوازي يُمكن تجزئة المشاهد. وهكذا حل الزمن الدرامي مكان الزمن الحقيقي، كمعيار للقرارات المونتاجية” المطبقة.
إن المونتاج هو جوهر الفن السينمائي، وقد تحقق هذا بفضل مخرجين كبار. “فمن خلال عمل وموهبة دي دابليو غريفيث، أصبح المونتاج والبناء الدرامي السينمائي شيئا واحدا”. وقد عمل الأمريكي غريفيت والروسي سيرجي إيزنشتاين على تجزئة المشهد إلى لقطات عامة ومتوسطة وقريبة لكي يتيح للمتفرج أن يتحرك تدريجيا تجاه القلب الوجداني للمشهد.
هكذا يُمكّن المونتاج المخرج من السيطرة على مادته. ولهذا مراحل.
بداية يصوغ المخرج محتوى اللقطات قبل بدء التصوير لصنع استمرارية الحدث بلقطات منفردة، ولاحقا حين تصير المادة مُصورة، يمكن للمخرج التصرف في المكان والزمان. يرتب لقطات تقدم تغيرات في الزمان والمكان. يتم ربط لقطتين تم تصويرهما في مكانين مختلفين. لقطات داخلية ولقطات خارجية… يُظهر المونتاج كيف تجري الأحداث، ومهمته هي “خلق الإحساس بالاستمرارية”، استمرارية بصرية يطالب تنويع اللقطات من أجل تحقيق التأثير الدرامي، و”يأتي المعنى الكلي للقصة من مجموع اللقطات” التي تبني التأثير العاطفي.
إن اللقطات القصيرة أكثر درامية، بينما تقدم اللقطات العامة جدا طابعا ملحميا للمكان. بفضل القطع بين لقطة عامة ولقطة مقربة يصير المتفرج أقرب إلى الحدث الذي يحدث على الشاشة. يقدم المونتاج تتابع اللقطات التي تحتوي انتقالات في الزمان والمكان. يسمح المونتاج بالدخول في لقطة في منتصفها بهدف إدخال المتفرج في الحدث من خلال انتقاء لحظة مفعمة بالعواطف.
هكذا تتكامل الكتب السينمائية الثلاثة لتقدّم للقارئ المهتم معرفة متكاملة عن الكتابة والإخراج والمونتاج، وهذا ضروري لكل سينمائي لكي لا يخلط بين الخواطر والمعرفة، فبدون معرفة مسبقة وعميقة بالأساليب الفنية في الكتابة والإخراج والمونتاج سيفشل السيناريست والناقد ومدرس السينما في ملاحظتها أثناء مشاهدة الأفلام وأثناء تدريس تحليليها.
مراجع:
كين دانسايجر، “فكرة الإخراج السينمائي.. كيف تصبح مخرجا عظيما؟”، ترجمة أحمد يوسف، المركر القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2009.
كين دانسايجر وبات كوبر، “سيناريو الأفلام القصيرة”، ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2011.
كين دانسايجر، “تقنيات مونتاج السينما والفيديو.. التاريخ والنظرية والممارسة”، ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط 1، القاهرة، 2011.
المصدر: وكالات