كنت دائماً اتلهف لحضور محاضرة فريدة من نوعها يوم الثلاثاء بقسم علوم التربية في جامعة فيرجينيا الغربية WVU بالولايات المتحدة الأمريكية. لم تكن المحاضرة التي كانت تبدأ من الساعة السادسة مساء وتنتهي في التاسعة ليلاً بالشيء البسيط أو العادي. وهكذا كانت المجموعة الصغيرة من طلبة الدكتوراه آنذاك (تخصص، علوم التربية: تطوير المناهج وطرق التدريس) حريصة على الحضور المستمر والمشاركة في النقاش المثمر المعهود. ورغم شدة برودة الطقس، مع تساقط الثلوج الكثيفة خلال فصل الشتاء البارد جداً في تلك المدينة الجامعية، كانت بعض المدرسات في الأقسام الثانوية، اللواتي كن يحاولن إكمال دراستهن بكل جدية، يقطعن أكثر من مائة ميل عبر طرق ملتوية بين جبال الأبلاش ليتمتعن بتلك المحاضرة ثم يعدن إلى بيوتهن في وقت متأخر من الليل دون كلل ولا ملل.
لم تكن تلك المحاضرة بالشيء العادي كما قلت، بل كان يديرها أستاذان يعتبران من عمالقة وأهرامات البحث العلمي في شؤون علوم التربية. كان الأستاذ الذي يدير النقاش هو البروفسور سام ستاك Sam Stack، أمريكي من أصول ألمانية أحد المشرفين على رسالتي في الدكتوراه، وبين الفينة والأخرى يدعو البروفسور الآخر الذي كان قد عاد للتو من رحلة بحث طويلة قادته إلى بلدان كثيرة في أمريكا اللاتينية، ليتدخل هذا الأخير ويضفي على الحديث والنقاش حلاوة وجمالية لا مثيل لهما.
استطاع هذان الهرمان أن يقودا المجموعة إلى تحليل مفصل ودقيق، بل وتشخيص دقيق لحالة المنظومة التربوية والتعليمية في تلك البلدان التي كنا نركز عليها. ومن شدة تلهفنا لسماع المزيد من الشروح والمعلومات حول مواضيع تربوية وتعليمية وبيداغوجية عدة، لم نكن نتوقف عن طرح الأسئلة بين الفينة والأخرى. وخلال إحدى المحاضرات، تحينت الفرصة لأطرح سؤالا كان دائماً يجعلني في حيرة: “ما هو أفضل شيء يجب أن نستثمر فيه من أجل النهوض بالأمة أو الوطن نحو الأفضل؟”، وقد تستغرب عزيزي القارء أنني ربما مثل غالبية الناس سرعان ما يطير فكري وربما فكرك أنت أيضاً نحو الاستثمار في الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو غير ذلك، ولكنني في حقيقة الأمر قد ذهلت عندما سمعت الإجابة! التفت إلي البروفسور ونادى علي بابتسامته المعهودة قائلاً: “أنظر يا عبد الله! اسمعني جيداً، عندما تعود إلى بلدك، احرص على أن تزف إليهم هذا الخبر: أبلغهم بكل صدق وأمانة أن أفضل ما يجب أن يستثمر فيه بلدك هو التعليم الابتدائي العمومي، وليس التعليم الخصوصي أو التعليم العالي فحسب”.
كان الجواب مدهشاً فعلا، إذ لم يخطر ببالي من قبل. لم أتوقف عند هذا الحد، بل طلبت منه التوضيح أكثر، حتى اقتنعت بتلك الحقيقة التي غالباً ما نغفل عنها، إذ بين البروفسور كيف حققت الدول التي استثمرت بشكل كبير في التعليم العام الابتدائي فوائد اجتماعية واقتصادية كبيرة، وضرب المثال بسنغافورة وفنلندا وغيرهما. وقد ارتبط تركيز تلك البلدان على التعليم العام الجيد الذي يسهل الوصول إليه مع ارتفاع معدلات معرفة القراءة والكتابة، وتعزيز المشاركة المدنية، والتقدم المجتمعي الشامل. وللأمانة، فقد أبلغت رسالته في العديد من المداخلات الفكرية والمقالات المنشورة تحت اسمي، عسى أن تجد أذناً صاغية والعمل بالنصيحة.
كما لا ننسى أن الباحث قد أشار إلى أن البلدان التي تعطي الأولوية للتعليم العمومي أو العام تُظهِر التزاماً بخلق تكافؤ الفرص، حيث يتمكن كل طفل في تلك البلدان، بغض النظر عن خلفيته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية، من الوصول إلى فرص التعلم الجيدة المتاحة. وتتجلى فوائد هذه الاستثمارات في تشكيل وتكوين قوة عاملة مدربة ومتعلمة وأكثر ابتكاراً ومهارة، مما يؤدي إلى زيادة التنافس الشريف والإبداع داخل الشركات أو القطاعات المختلفة، والنمو الاقتصادي المضطرد، والاستقرار الاجتماعي الشامل والمتكامل. كما أن الوصول إلى هذا المبتغى يبقى مرتبطا ورهينا بمدى اهتمام الدولة بقطاع التعليم الابتدائي العمومي، ومدى صحة وجودة البنية التحتية للمدارس، ومدى جودة وتكامل مرافقها وقوة مدرسيها وأطرها الإدارية، ومدى جاذبيتها، ومدى انخفاض مؤشر الهدر المدرسي والتغيب عن الدراسة في تلك المؤسسات.
عوائق تطور التعليم العمومي:
إن الرغبة في تطوير التعليم العمومي الابتدائي تنبثق من قناعة الأمة ككل، وذلك عندما تكون الإرادة السياسية مقتنعة تماماً بأن المبادئ التي أجمعت عليها أول حكومة مغربية إبان حصول المغرب على استقلاله، كانت جميعها تصب نحو تطوير هذا القطاع والنهوض به كأولوية ملحة لتعم فائدته جميع المغاربة على حد سواء. وبالرجوع إلى الوراء، نلاحظ أنه لما كان الضمير يقضاً وحاضراً، وكانت الإرادة والعزيمة حاضرتين، بل وكان هنالك الإخلاص والنية الحسنة، تم تطوير المدرسة العمومية المغربية بالوسائل المتاحة آنذاك، وأعطت الشيء الكثير، وتخرجت منها أجيال لا مثيل لها في النبوغ والعطاء. كانت الشهادة الابتدائية كفيلة بأن يكون صاحبها كفؤا بمعنى الكلمة فيما يخص القراءة والكتابة والحساب والتعبير باللغتين العربية والفرنسية، إلى غير ذلك.
ومع كامل الأسف، عندما تخلت النخب عن القناعة بضرورة وضع مشروع تطوير التعليم الابتدائي العمومي والاستثمار فيه كإحدى الأولويات، واندفع الجميع نحو التركيز على الاستثمار في القطاع الصناعي وغيره، دون الوصول إلى قناعة راسخة ونظرة ثاقبة أن من يغذي التعليم الإعدادي والثانوي والجامعي هي المدرسة العمومية، فإن نحن أعددنا المؤسسات القوية بكل المقاييس من بنية تحتية وأطر تدريس كفؤة ومدربة ومناهج قوية وسليمة، نكون بذلك قادرين على إعداد أجيال قادرة على العطاء ونهل العلم والمعرفة بكل جدارة واستحقاق. لكن عندما حدث العكس، أي عندما أصبح عدد كبير من شرائح المجتمع يولون الاهتمام بالمدارس الخاصة على حساب المدرسة العمومية، أصبحنا نلاحظ وبشكل جلي ظاهرة الهجرة من المدارس العمومية إلى المدارس الخاصة. ولذلك، أصبحت الاستثمارات تصب في ميدان التعليم الخصوصي، وظهرت إلى الوجود مؤسسات بأشكال هندسية جذابة وزخرف براق وحافلات لنقل التلاميذ، مما دفع بالعديد من الآباء والأمهات إلى الزج بأبنائهم وبناتهم في تلك المؤسسات، سواء بحكم قناعتهم بمخرجاتها أو بمجرد اتباع الموضة الاجتماعية التي تفشت في المجتمع وأنهكت جيوب معتنقيها.
ولذلك، فقد أصبح جلياً أن إحدى الظواهر البارزة التي تساهم في التحديات التي تواجه التعليم العمومي هي التحول المتزايد للطلاب وأولياء الأمور نحو المدارس الخاصة. وكثيراً ما يتغذى هذا التحول على تصورات مفادها، كما أشرنا، أن البنية الأساسية أفضل وتبقى أكثر جاذبية، بالإضافة إلى ذلك، فإن أحجام الفصول أصغر، بينما تعاني معظم المدارس العمومية من ظاهرة الاكتظاظ والنقص في عدد المدرسين وحجرات الدرس، بالإضافة إلى الجودة الأعلى في بعض مدارس التعليم الخصوصي.
ومع ذلك، فإن لهذا الاتجاه آثارا عميقة على المساواة المجتمعية، لأنه يميل إلى تفاقم الفوارق القائمة بين شرائح المجتمع والنسيج المجتمعي، وخاصة في العالم القروي أو الأماكن النائية. فالمدارس الخاصة، حسب رأي بعض الباحثين في هذا المضمار، على الرغم من أنها تبدو أكثر جاذبية وتوفر مزايا معينة تهم بعض الفئات من المجتمع، إلا أنها غالبًا ما تلبي احتياجات فئة سكانية أكثر حظًا من الناحية المادية، أي أولئك ميسوري الحال. ومما لا شك فيه أنه من الممكن أن يؤدي نزوح أو هجرة الطلاب من المؤسسات العامة إلى المؤسسات الخاصة إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية، مما يحد من إمكانية الوصول إلى التعليم الأساسي الجيد بالنسبة لأولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التعليم الخاص ومتطلباته من كتب وأدوات غالية وأثمنة خيالية لوسائل النقل المدرس الخاصة. وبالتالي، فإن هذه الظاهرة قد تخلق نظاما من مستويين مختلفين قد يعيقان الحراك الاجتماعي ويديمان عدم المساواة بين شرائح المجتمع.
خلاصة:
إن الاستثمار في البنية التحتية للمدارس العمومية وتطوير التعليم الابتدائي العمومي يعتبران ركيزة أساسية من أجل تطوير المجتمع وتحصينه، بل إن التمويل الكافي لتحسين البنية التحتية في المدارس العمومية أمر بالغ الأهمية لما له من تأثير على نفسية الطلاب وأولياء أمورهم على حد سواء. كما يجب ألا ننسى أن ذلك الاستثمار والتطوير يجب أن يشمل تطوير المرافق، وتوفير الوسائل التعليمية الحديثة، والنقل المدرسي، وتيسير الولوج لذوي الاحتياجات الخاصة، وضمان بيئة آمنة ومواتية لكل من الطلاب والمعلمين، وتوفير ملاعب وقاعات للرياضة وساحات جميلة ونباتات وزهور يساهم التلاميذ في زراعتها ورعايتها، ومكتبة شاملة تلبي حاجياتهم دون تكاليف. الاستثمار الحقيقي يحب أن يحرص على تطوير المناهج القوية مع اتقان اللغات الأجنبية، وتوفير فضاء نظيف تراعى فيه جميع شروط السلامة وجميع معايير الجودة الشاملة، وكذلك فضاء خارجي سليم وخال من جميع الموبقات.
وبالإضافة إلى ذلك، لا بد من تبني مقاربة تشاركية والاستثمار فيها والتكفل بجميع تكاليف الأنشطة الرياضية والثقافية والفكرية والمسابقات الأدبية وبرامج الرياضة المدرسية، من أجل نجاح العملية التعليمية وتحبيبها للتلاميذ أو الطلاب وأولياء أمورهم أيضاً. كما يحب النظر في نهج شامل يعالج مخاوف المعلمين مع إعادة تقييم وتعزيز البنية التحتية الأوسع للتعليم العمومي، وربط المسؤولية بالمحاسبة الشفافة.
وأخيراً يمكننا القول بأن الأجور المناسبة التي تتماشى مع متطلبات العصر وظروف العيش القاسية، وظروف العمل المحسنة للمعلمين، هي عناصر أساسية لنظام تعليم عام مزدهر ومنفتح على الثقافات الأخرى، ومتمسك بثوابت الأمة ومقدساتها. ومن الممكن أن تؤدي معالجة هذه المخاوف إلى تعزيز معنويات المعلمين وأطر المدارس العمومية، وتقليل احتمالية الإضرابات التي أصبحت تؤرق بال الآباء والأمهات وتتسبب في هدر طاقات التلاميذ والطلاب، وتؤدي إلى العزوف عن الحضور المستمر. ومما لا شك فيه أن تحسين جودة التعليم العمومي الابتدائي والاستثمار فيه، مع إعادة النظر في رفع حاجز سن الالتحاق بمهنة التعليم وجعل ذلك متاحاً لكل الفئات العمرية القادرة والمتمكنة، للحد من ظاهرة البطالة، خاصة في صفوف الشباب، سيؤدي لا محالة إلى جذب المعلمين ذوي الجودة العالية والاحتفاظ بهم والاستفادة من خبراتهم في كافة المدن والقرى المغربية.
والله ولي التوفيق.
*باحث مختص في مجال التربية والتعليم والثقافة أحد مؤسسي منصة 3B Golden Gate للتدريب وتعليم اللغة الإنجليزية عن بعد
المصدر: وكالات