كان الأسبوع الذي تلا “صدمة الزلزال” شاهدا على توالي وتنافس لافت بصم مختلف المبادرات التضامنية التطوعية، مع تعدد المساهمات ما بين عينية ومالية وأخرى معنوية جسدتها أفعال ميدانية.
ورغم أن الأرض اهتزت تحت أقدام المغاربة بقوة فاقت 7 درجات في قرى ومدن عديدة، إلا أنها لم تستطع أن تضرب أو تهز قيم التضامن الأصيلة في معدن وروح “تمغربيت” الجامعة لهم.
ما حدث بعيْد زلزال الثامن من شتنبر يسائل تطور “الفعل التضامني والتطوعي الوطني” في ظرفية الكوارث والأزمات الكبرى بين منطق اختيارية التبرع والمساهمات المالية والعينية، وتأكيد رسمي من طرف منشور لرئاسة الحكومة على “عدم الإجبارية”، تاركا الأمر لبروز حس التطوع.
“فرق كبير بين الإجبار والاختيار”
وديع الشحواطي، أستاذ التعليم العالي في علوم الاقتصاد بكلية تطوان التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، سجل أن الموضوع “كان محط جدل في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر مجموعة من الوسائل التي عبّر من خلالها الموظفون عن تساؤلات مشروعة، خصوصا وأن هناك فرقا كبيرا بين الإجبارية والاختيارية في التضامن”.
“لا يجب إغفال أن سبب الجدل والنقاشات حول مساهمة فئات مجتمعية بعينها مردّه إلى وقت ميت بين حدوث الزلزال وصدور قرار الاقتطاع الإجباري من أجور ورواتب موظفي الدولة والمؤسسات الحكومية ومن في حكمهم”، يلاحظ الخبير الاقتصادي متحدثا لجريدة هسبريس.
وقال الشحواطي إنه جرى “تدارك الأمر في منشور رئيس الحكومة الذي يوضح أن المساهمة اختيارية تطوعية مع تحديده الآليات كذلك”، مشيرا إلى أن “الفئات المعنية، حسب أرقام سنة 2022، يفوق عددها 565 ألف موظف(ة) عمومي، ما يعني أن مشاركتهم في الفعل التضامني الوطني لمجابهة تداعيات ترتبت عن زلزال الحوز بالغة الأهمية، كما يعكس قيمة تضامن هذه الشريحة الواسعة من المواطنين وثقلها البارز”.
“مزايا وسلبيات في الاتجاهين”
المتحدث ذاته أوضح أن “المقاربتين معا، الإجبار أو الاختيار في التضامن ضد الوقائع الكارثية الكبرى، تحملان إيجابيات وسلبيات لكل منها”.
وبينما “إجبارية المساهمات التضامنية والتبرع تتيح دقة في الحسابات، مع وضوح الرؤية ومعرفة الإمكانيات المالية المتاحة وكيفية استغلالها”، فإنها، بحسب الشحواطي، لا تخلو في المقابل من سلبيات.
وتابع شارحا: “كيف يمكن أن تفرض التضامن على موظف ما وهو عانى ويعاني حاليا من موجات متتالية من الغلاء والتضخم التي تضررت منها كثيرا الطبقات المتوسطة بالمغرب؟”، منبها إلى أن خطر زيادة إنهاك ميزانيات الأسر يضر بحركية عجلة الاقتصاد”.
وبخصوص اعتماد منطق الاختيار في جمع موارد صندوق تدبير آثار الزلزال (المقدرة إجمالا في حدود 60 مليار درهم على الأقل)، أوضح أستاذ الاقتصاد أن “أولى المساهمات جاءت اختيارية بسخاء كبير من طرف الملك ومختلف المؤسسات العمومية الكبرى التي برهنت على أن حجم المساهمات الاختيارية غالبا ما يفوق نظيرتها الإجبارية”.
وخلص إلى أن “الإجبار في التضامن الوطني (الذي يعد الاختيار هو الأصل فيه) قد يعود بانعكاس مضاد، ما يعني أن تذمّر واعتراض شريحة واسعة من الشعب قد يولد خفضا للمردودية في العمل ونقص الحس التضامني لدى فئات منهم، خصوصاً بعد ما شهدناه من تضامن واسع وتطوع ونكران للذات من رجال ونساء الصحة والتعليم، فضلا عن مبادرة أساتذة التعليم العالي”.
كما استحضر المصرح ما تم خلال ظرفية جائحة كورونا من “اقتطاع إجباري من رواتب جميع الموظفين بدون استثناء”، داعيا إلى رؤية واضحة في جمع التبرعات.
وأوصى أستاذ الاقتصاد بـ”توزيع التنمية الشاملة بعدالة مجالية، وهو ما سيعود بكل تأكيد على رفع الحس التضامني العام لدى جميع الفئات بقيمة موارد أكبر تطوعا واختيارا”.
“تلقائية التطوع” أصيلة
ومن خلال نظرة سوسيو-بسيكولوجية لموضوع التطوع، قال محسن بنزاكور، دكتور نفساني أستاذ مختص في علم النفس الاجتماعي بكلية المحمدية: “حين الكوارث مثل فاجعة الحوز، لا يمكن أن ننتظر إلا تطوعاً بمفهومه التلقائي العفوي”، مفسّراً ذلك بـ”مصير مشترك بين المغاربة الذين عرفوا تاريخيا أزمات قوية كالمجاعة والزلازل والاستعمار، فحيثما وجدت الأزمة التي تشكل خطرا على استقرار المجتمع انتشر التضامن”.
الخبير الاجتماعي ذاته رصد في إفادات تحليلية لهسبريس أن “الفكر التضامني يتجسد تلقائيا من خلال سلوكيات اجتماعية متداولة لدى المغاربة، سواء تعلق الأمر بالفرح أو القرح”، ملاحظاً أنه “لم يكن هناك قرار سياسي وراء هبّة الناس والمغاربة البسطاء بالمغامرة بحياتهم في وسط ظروف وعرة ومسالك جبلية غير مفتوحة في الأيام الأولى التي تلت الزلزال”.
“تضامن نابع من القلب”
“هذا الأمر لا يمكن أن يفسّر بطريقة عقلانية، بل هو نابع من القلب”، يورد بنزاكور، لافتا إلى أن “هناك تقاسما للمأساة إحساسا بمعاناة الآخرين، خصوصا أن طبيعة المنطقة الجبلية تثير الإحساس بالمواطنة ومساعدة قاطني الأقاصي”.
وزاد الخبير في علم النفس الاجتماعي شارحا: “كلما كان هناك طلب أو إجبار، تحولت المسألة من تضامن إلى واجب يقوم به الشخص رغماً عنه أو قد لا يقوم به”، معتبرا أن تراجع الحكومة عن إجبارية اقتطاعات الرواتب لتمويل صندوق الزلزال هو نوع من “الاستجابة للتلقائية في التعامل مع الحدث؛ فالمغاربة لا يحتاجون من يجبرهم من أجل بناء هذا التضامن والبذل والعطاء والوحدة”.
وضرب بنزاكور المثال بالرجل الفقير الذي رصدته كاميرا وهو يقدم ما استطاع ويقتسمه آتيا به بنفسه على دراجته، معتبرا أن “روح الانتماء إلى تمغربيت” هي التفسير الفريد لذلك.
وختم تحليله بأن كل ما أبانت عنه ظرفية كارثة الزلزال “اجتماعيا ونفسيا، مؤشر دال على أن التآزر والتضامن الأخوي ليس مسألة إجبار، بل هو قضية انتماء وأخوة ومواطنة وروح اجتماعية إلى درجة أنه وقع التنافس في هذا المضمار والمبادرة إلى الخير حتى دون أي قوة تنظيمية”.
المصدر: وكالات