قال الدكتور المنتصر السويني، باحث في المالية العامة والعلوم السياسية، إن الحق في الإضراب يقابله مبدأ استمرارية المرفق العمومي، مشددا على أن ثلاثية “الدولة-الموظفين-المرتفقين” جعلت المبدأ المرتبط باستمرارية يفرض على المتتبع القيام بنوع من التوازن بين ثنائية “استمرارية المرفق العمومي-الحق في الإضراب”.
وجوابا على قانونية الاقتطاع من أجور المضربين، ضمن الرد على سؤالين لجريدة هسبريس الإلكترونية، أوضح السويني أن المشرع المغربي من خلال قانون الوظيفة العمومية لم يعتبر الموظف المضرب في وضعية القيام بالوظيفة، مضيفا أن الإضراب كتوقف جماعي عن العمل لا يمكن اعتباره حقا مطلقا، بل فقط حقا استثنائيا مشروطا بضرورة ضمان استمرارية المرافق العمومية.
هذا نص الحوار:
ـ في نظركم، هل يعتبر الإضراب حقا؟
أكيد، الحق في الإضراب هو حق دستوري، ولكن يوجد حق دستوري آخر متناقض مع حق الإضراب (شرعنه المشرع الدستوري المغربي منذ دستور 1962)، وهو المبدأ الدستوري المرتبط باستمرارية المرافق العمومية (وهو المبدأ الذي يعتمد على ضرورة الاستجابة للحاجيات المرتبطة بالمصلحة العامة دون توقف). وبالتالي، فإن ثنائية المبدأين “استمرارية المرفق العمومي-الحق في الإضراب” تطرح إشكالية التوازن والتوفيق بينهما.
وهنا وجب التأكيد أنه في البداية كان الدستوريون ينظرون إلى أولوية المبدأ المتعلق بالحق الدستوري المرتبط بالإضراب على المبدأ الدستوري المرتبط باستمرارية (الحق في الاستمرارية) المرفق العمومي، إلا في الحالة الذي يمس فيها الإضراب بالنظام العام، حيث ساد الاعتقاد بضرورة شرعنة تدخل السلطات العمومية من أجل ضمان استمرارية المرفق العمومي.
ولكن، بعد قرنين من اكتشاف مبدأ استمرارية المرفق العمومي، فإن نظرية استمرارية المرفق العمومي تجاوزت الاعتبارات المتعلقة بالمس بالنظام العام، وانتقلت إلى إدماج الشرط المرتبط بنوعية الخدمة المرتبطة باستمرارية المرفق العام.
ثلاثية “الدولة-الموظفين-المرتفقين” جعلت المبدأ المرتبط باستمرارية المرفق العمومي يفرض على المتتبع القيام بنوع من التوازن بين ثنائية “استمرارية المرفق العمومي-الحق في الإضراب”.
وهنا وجب التأكيد أن بروز مفهوم المرتفق غير النظرة السابقة لمبدأ استمرارية المرافق العمومية، من خلال عدم ربطها فقط باحترام النظام العام وباستمرارية المرفق العمومي واستمرارية مؤسسات الدولة في الزمن وعدم السماح بتوقيف الخدمات التي تقدمها، بل وتم ربطها كذلك بضرورة الأخذ بعين الاعتبار الحقوق المرتبطة بالمرتفق الذي ينتظر من مؤسسات الدولة خدمات مستمرة في الزمن وخدمات نوعية وذات كلفة مقبولة، وبالتالي لم يعد موضوع استمرارية مرافق الدولة يهم فقط الثنائي المكون من “المضربين-الدولة” بل صار الأمر يهم الثلاثي المكون من “المضربين-الدولة-المجتمع أو المواطن -المرتفق”.
بروز المرتفق والحقوق التي يطالب بها فرض القيام بتحديث لمفهوم “استمرارية المرفق العمومي”؛ بحيث إن هذه الاستمرارية لم تعد مرتبطة فقط بخدمات عمومية مستمرة في الزمن، بل كذلك بخدمات عمومية مستمرة ونوعية ومتميزة وفعالة. تحديث مبدأ استمرارية المرفق العمومي منح دفعة قوية لمبدأ استمرارية المرفق العمومي أمام مفهوم الحق في الإضراب، وبالتالي فرض المبدأ المرتبط باستمرارية المرفق العمومي نفسه أمام ممارسة الحق في الإضراب.
وهنا وجب التأكيد أن الديمقراطية هي شكل الحكم الذي يحترم المواطنين. احترام المواطنين يفرض على الديمقراطية أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح واختيارات وكذلك التطور المرتبط بهذه المصالح والاختيارات. الأخذ بعين الاعتبار بهذه المطالب يعني أن هناك التلقي السياسي لمطالب المواطن المصوت، وكذلك مطالب المواطن المرتفق (الذي يطالب باستمرارية الخدمات وكذلك بنوعية هذه الخدمات). وبالتالي، فإن الشرعية السياسية الانتخابية والشرعية الإدارية المرتبطة بضرورة تقديم خدمات نوعية هما شيآن مرتبطان ومتلازمان.
تطور مفهوم استمرارية المرافق العمومية لم يدمج فقط المواطن المرتفق، بل كذلك المواطن دافع الضرائب، وهنا وجب التأكيد أن الضريبة هي شكل فريد لتمويل الدولة وتمويل المرافق العمومية، وهي تعتمد على المس بملكية الأشخاص الماديين والمعنويين، وبالتالي من المفروض الاعتماد على أسباب وجيهة وقوية من أجل فرضها، وبالتالي شرط القبول الضمني مجسد من خلال شكلية قانونية تبناها جون جاك روسو مفادها أن الضرائب لا يمكن فرضها قانونيا إلا من خلال قبول الشعب أو ممثليه بذلك (خطاب حول الاقتصاد السياسي 1755)، وبالتالي تم الاتفاق على أن الضريبة لا يمكن أن تفرض إلا بعد موافقة ممثلي الشعب على ذلك من خلال قانون (قانون عادي أو قانون المالية)، هذا الاتفاق كان يعتبر أن الضريبة تساهم في تحقيق المصلحة العامة، وهو ما يطلق عليه “المدنية الضريبية التقليدية”.
المدنية الضريبية التقليدية التي كانت تعتمد على الجوهر السياسي للمواطن دافع الضرائب عرفت تطورا مهما مع بروز ما يطلق عليه الطبيعة الاقتصادية المرتبطة بالمواطن الزبون. بروز ما يطلق عليه بالمواطن الزبون، ضرب في العمق المفهوم السياسي للضريبة، وكذلك مفهوم المدنية الضريبية التقليدية، وابتكر ما يطلق عليه الكنه الاقتصادي للضريبة المرتبطة ببروز مفهوم المواطن الزبون، حيث إن المواطن الزبون يبقى مهتما بنوعية وكلفة الخدمة التي تقدمها المؤسسة أو تقدمها المرافق العمومية، وبالتالي برز إلى الوجود ما يطلق عليه “المدنية الضريبية الجديدة”.
المدنية الضريبية الجديدة تعتمد على أن الضريبة هي ثمن لخدمة يتم تقديمها من طرف المرافق العمومية، وبالتالي من المفروض أن تكون هذه الخدمة نوعية وأن تكون كلفتها على دافع الضرائب مقبولة وقابلة للمنافسة في السوق. مما يعني أن الضريبة اليوم لا تحدد فقط على المستوى البرلماني، بل وكذلك على المستوى الإداري من خلال نوعية وكلفة الخدمة المقدمة للمواطن الزبون. وبالتالي، فإن المدنية الضريبية الحديثة أخذت حجما إداريا وتدبيريا مرتبطا بالثقافة التدبيرية الحديثة، وبالتالي صارت المدنية الضريبية الحديثة تعتمد ليس فقط على المشروعية السياسية للضريبة، بل كذلك على المشروعية التدبيرية للضريبة.
وفي هذا السياق، فإن تنصيص الإصلاح الدستوري لسنة 2011 على تقييم السياسات العمومية كان تنصيصا على قياس الأثر الذي تتركه السياسات العمومية على الثلاثي المكون من المواطن والمرتفق ودافع الضرائب، مما يعني فعالية الصرف العام.
فعالية الصرف العام مرتبطة بقياس الأثر الذي تحدثه النفقة العمومية من خلال قياس هذا الأثر على المواطن والمرتفق ودافع الضرائب، وهي القضايا التي شرعنها بشكل دقيق تبني القانون التنظيمي للمالية الذي تبناه المشرع التنظيمي المغربي سنة 2015 من خلال الانتقال من فلسفة التدبير المعتمدة على الوسائل إلى فلسفة التدبير المعتمدة على النتائج، مما يعني أن المبدأ المعتمد على استمرارية المرفق العمومي لم يعد يعتمد فقط على استمرارية الخدمة التي تقدمها هذه المؤسسات، بل كذلك على نوعية هذه الخدمات من خلال استطلاع رأي المرتفق (في التجارب الدولية وجب التأكيد على شرعنة قاضي حقوق الإنسان بأوروبا للفكرة المرتبطة باستمرارية الخدمة التي تقدمها المرافق العمومية، ومن ضمنها نوعية الخدمة وكذلك مصالح المرتفقين)، وكذلك كلفة هذه الخدمات من خلال استطلاع رأي دافع الضرائب، وبالتالي على الثنائي الذي يناقش اليوم القوانين الأساسية، المكون من “الحكومة-النقابات” أن يعلم أنه غيب عنصرا أساسيا في الموضوع، هو المواطن المرتفق والمواطن دافع الضرائب، خصوصا وأن المواطن دافع الضرائب مكون بالأساس من الطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي تلجأ في غالبيتها اليوم إلى التعليم الخصوصي، وبالتالي يصعب إقناعها بتمويل الزيادة لقطاع عمومي لم تعد هي زبونة له، وهذه حقيقة لا يمكن إغفالها في أي حوار، خصوصا وأن تمويل الزيادة لن يأتي من السماء، بل من جيوب دافعي الضرائب (وإذا كان العقل المضرب يعتمد على القوة العددية، فإن عقل دافع الضرائب يرى في ارتفاع العدد الكلفة الكبيرة التي سيتحملها، وبالتالي من المفروض إقناعه بجدوى وفعالية الضريبة الجديدة التي ستفرض عليه)، مما يفرض أولا فتح نقاش حول نوعية التعليم العمومي وجودته وكلفته من خلال إقناع الطبقة المتوسطة بجدوى العرض العمومي المرتبط بالتعليم وبقطاعات أخرى، وبالتالي لم يعد البرلمان والحكومة هما من يحددان بشكل أحادي المصلحة العامة، بل صارت المصلحة العامة يحددها المواطن والمرتفق ودافع الضرائب.
وفي الأخير، فإن المفهوم الجديد لاستمرارية الخدمات التي تقدمها المرافق العمومية يفرض نفسه بقوة اليوم أمام ممارسة الحق في الإضراب (على المستوى الدولي، وخصوصا التجربة الأنجلو-ساكسونية حيث يعتبر الإضراب كالسلاح النووي يتم التهديد به ولكن لا يتم اللجوء إليه إلا في الحدود التي تضمن استمرارية المرافق العمومية، وخصوصا المرافق العمومية الأساسية كالتعليم والصحة، ونوعيتها وكلفتها).
ـ هل يعتبر الاقتطاع من أجر الموظف المضرب قانونيا؟
في البداية، وجب التذكير بما ينص عليه الفصل الثالث من قانون الوظيفة العمومية من أن “الموظف في حالة قانونية ونظامية إزاء الإدارة”، وبالتالي يطرح السؤال: هل الموظف المضرب يوجد في وضعية نظامية إزاء الإدارة؟ أي: هل يعتبر المشرع العادي المغربي الموظف المضرب في وضعية القيام بالوظيفة؟ مما يحيلنا على محتوى الفصل السابع والثلاثين من قانون الوظيفة العمومية الذي نص على أن الموظف يكون في إحدى الوضعيات التالية: “في حالة القيام بالوظيفة، في حالة الإلحاق، في حالة التوقيف المؤقت عن العمل، في وضعية الجندية”، مما يدفعنا من جديد إلى طرح السؤال الثاني: هل يعتبر الموظف المضرب في وضعية القيام بالوظيفة؟ وهنا تفرض الإجابة ضرورة العودة إلى التعريف الذي قدمه المشرع العادي المغربي للموظف الذي يوجد في وضعية القيام بالوظيفة، وبالتالي العودة إلى كنه المادة الثامنة والثلاثين من قانون الوظيفة العمومية التي تنص على:
“يعتبر الموظف في وضعية القيام بالوظيفة إذا كان مرسما في درجة ومزاولا بالفعل مهام إحدى الوظائف المطابقة لها بالإدارة التي عين بها. ويعتبر في نفس الوضعية الموظف الموضوع رهن الإشارة والموظف المستفيد من الرخص الإدارية والرخص لأسباب صحية والرخص الممنوحة عن الولادة والأبوة والكفالة والرضاعة، والرخص بدون أجرة والتفرغ النقابي لدى إحدى المنظمات النقابية الأكثر تمثيلا”.
مما يوضح أن المشرع المغربي من خلال قانون الوظيفة العمومية لم يعتبر الموظف المضرب في وضعية القيام بالوظيفة، ما يدفع المتتبع والباحث إلى طرح السؤال التالي: إذا كان الموظف المضرب لا يوجد في وضعية نظامية ولا يوجد في وضعية القيام بالوظيفة، فما هي الوضعية القانونية التي تؤطر وضعيته؟
للإجابة على هذا السؤال، لا يجب الاستناد فقط إلى قانون الوظيفة العمومية، بل يجب كذلك التذكير بقانون الاقتطاع من رواتب وموظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة الصادر بتاريخ 5 أكتوبر 1984، وكذلك مرسومه التطبيقي الصادر بتاريخ 10 ماي 2000، وهنا وجب التأكيد أن قانون “التغيب عن العمل” قد نقل الموظف المضرب من وضعية عدم القيام بالالتزامات المهنية المطلوبة منه (إمكانية التعرض للعقوبات التأديبية) إلى وضعية التغيب وعدم إنجاز المهام، التي تعرضه فقط للاقتطاع من راتبه بما يوازي مدة العمل غير المنجز.
على اعتبار أن الإضراب حق دستوري وكذلك الأمر بالنسبة إلى استمرارية المرفق العمومي، فإن الإضراب كتوقف جماعي عن العمل لا يمكن اعتباره حقا مطلقا، بل فقط حقا استثنائيا مشروطا بضرورة ضمان استمرارية المرافق العمومية (كما هو معمول به في كافة التجارب الدولية) في أداء مهامها ولو في الحدود الدنيا.
لهذا، لم يعتبر المشرع المغربي (والمشرع في غالبية دول العالم) الموظف المضرب في وضعية الموظف الذي يمارس مهامه بشكل فعلي من خلال قانون الوظيفة العمومية، وفي هذا السياق وجب التذكير بما سبق وأكد عليه الأستاذ شابيس من أن الإضراب هو حق للتمرد. وباعتباره كذلك، لا يجب على الدولة تشجيعه؛ لأنها بذلك تكون قد شرعنت عمليا المس بالمبدأ الدستوري المرتبط باستمرارية المرفق العمومي.
المصدر: وكالات