قدم الدكتور المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، قراءة في الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية، مبرزا أن المؤسسة الملكية لم تكن تؤكد على قوتها المؤسساتية وقوتها التدبيرية فقط، بل وكانت تعمل كذلك على الرفع من قوة مغرب المؤسسات، خصوصا البرلمان والحكومة، كما رسخت لمملكة التغيير بدل المملكة المحافظة.
وأضاف الباحث ذاته، ضمن مقال توصلت به هسبريس بعنوان “الخطاب الملكي الأخير وترسيخ المؤسسة الملكية القادرة”، أن الخطاب الملكي الأخير يندرج ضمن ما يطلق عليه “التفاؤل بالمستقبل المفتوح”، الذي يعتمد على فكرة التطور والتقدم التي تحضر بقوة في الفعل وفي القول الملكيين، ويعتمد كذلك على الثقة الشعبية الراسخة بأن المؤسسة الملكية اليوم هي مؤسسة قادرة، والمؤسسة القادرة والمؤمنة بالتطور والتقدم هي المؤسسة القادرة على تغيير السلبي والمتجاوز بالإيجابي والحديث من خلال الفعل والعمل والإرادة.
وهذا نص المقال
في البداية وجب التأكيد أن الكل كان ينتظر القول الملكي، وخصوصا أن المناسبة كانت متعلقة بافتتاح الدورة البرلمانية الخريفية (زمن الدخول البرلماني)، هذه المناسبة تجمع المؤسسة الملكية باعتبارها رمز وحدة الأمة والحكم الأسمى بين مؤسساتها والساهرة على حسن سير المؤسسات الدستورية (الفصل 48 من الدستور)، ومن جهة أخرى المؤسسة البرلمانية باعتبارها تمثل بصفة غير مباشرة السيادة والتمثيلية (الفصل 2 من الدستور)، وبالتالي كان الكل ينتظر القول الملكي النوعي المرتبط بنوعية الحدث الدستوري.
الخطاب الملكي والاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “قوة الفعل/القول النوعي والمختصر”:
انتظار القول الملكي النوعي كان مرتبطا من جهة أخرى بكون المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس هي مؤسسة اختارت العمل من داخل الاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “قوة الفعل/القول النوعي المختصر والقليل”، هذه الثنائية لا تشفي غليل مجتمع الإعلام والتواصل والقول المجاني والثرثرة أحيانا. وبالتالي، فإن الكل كان ينتظر اللحظات القليلة المرتبطة بالقول الملكي النوعي.
الحدث الدستوري كان مرتبطا كذلك بأن القول الملكي يستمد كذلك أهميته من موضوعه، حيث أن الأجندة الملكية تمثل أولوية بالنسبة للأجندة البرلمانية والأجندة الحكومية والأجندة الإدارية. وبالتالي، فإن المؤسسة التقريرية المبادرة تلعب دورا مهما في تحديد الأولويات وتسمية المشاكل وتحديد الاتجاه وتحديد الاستراتيجية العامة.
ثنائية “قوة الفعل/القول الملكي النوعي والمختصر” كانت تؤكد أن المؤسسة الملكية اليوم مقتنعة بأن الحكم هو القرار، وأن الحكم هو القدرة على تنفيذ القرار. وبالتالي، فإن قوة المؤسسات اليوم تقاس بقدرتها على تحويل السلطات المخولة لها إلى قوة للفعل والإنجاز والنتائج. وهنا وجب التأكيد أن القول الملكي المقرون بالفعل في عالم تدبير المؤسسات يمنح كذلك القدرة على تحويل القول السياسي المعروف عنه في التجارب الدولية أنه قول خشبي وقول مطاطي إلى قول حقيقي وواضح وقول قابل للتنفيذ، مع العلم أن القليل من رؤساء الدول استطاعوا نقل قولهم السياسي من مربع القول الخشبي والقول المطاطي إلى مربع القول الحقيقي والقول الذي يمتلك قوة التنفيذ على أرض الواقع. وبالتالي، القول الموثوق فيه.
ويحسب للمؤسسة الملكية من خلال قوة الفعل والقول النوعي والحقيقي والصريح والمختصر أنها استطاعت أن تحدد التوجه العام للدولة وتكشف عن معالم المستقبل وتطمئن المجتمع، كما أن المؤسسة الملكية من خلال خطابها في افتتاح الدورة البرلمانية لم تكن تؤكد على قوتها المؤسساتية وقوتها التدبيرية فقط، بل وكانت تعمل كذلك على الرفع من قوة مغرب المؤسسات، وخصوصا البرلمان والحكومة.
في بداية الخطاب، تحدث الملك عن الزلزال وكيفية مواجهة آثاره والوقوف إلى جانب المتضررين؛ حدث الزلزال في علم السياسة هو من الأحداث غير المتوقعة. وبالتالي، فإن قوة القادة السياسيين تقاس أولا بقدرتهم على مواجهة الأحداث غير المتوقعة، وهنا أكدت المؤسسة الملكية أنها صارت خبيرة في مواجهة الأحداث غير المتوقعة بشهادة المؤسسات الدولية (أزمة كوفيد، أزمة الزلزال)، ومن المعروف في علم السياسية أن السياسة نصفها متعلق بمواجهة الأحداث غير المتوقعة، ونصفها الآخر متعلق بمواجهة الأحداث المتوقعة، والمؤسسات القوية هي المؤسسات التي تثبت قدرتها وحنكتها في مواجهة الأحداث غير المتوقعة؛ لأن عالم اليوم هو عالم اللايقين والعالم الذي لا يمكن توقع المستقبل فيه بشكل واضح.
بعد ذلك انتقل الخطاب إلى الحديث عن الروح والقيم الوطنية التي تسري في عروقنا جميعا ودور هذه القيم في تحقيق التضامن والتماسك الاجتماعي بين الفئات والأجيال والجهات، مما جعل المجتمع المغربي كالبنيان المرصوص، ودور ذلك في ترسيخ الوحدة الوطنية. وهنا وجب التأكيد أن الوحدة التي ترسخت بعد الزلزال وتجلت أساسا من خلال الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطنين وبين مغرب الحاكمين ومغرب المحكومين، كانت نتيجة لوضوح الاتجاه العام والتفاؤل العام الذي يعبر عنه المغاربة بأن المستقبل سيكون أحسن، ونتيجة للإرادة القوية للفعل، ونتيجة للقول الحقيقي من خلال ترسيخ الحقيقة المرتبطة بالدولة القادرة، مما يرفع منسوب الثقة والتفاؤل في القدرة على مواجهة الأزمات والمشاكل بسلاسة، ويعمل كذلك على محاربة الخوف واليأس والتقوقع والانعزال.
كما أن ترسيخ الوحدة والإجماع يسند بشكل كبير المؤسسات ويبرز أن المشروعية الشعبية لا تترسخ فقط في الانتخابات والاقتراعات العامة، بل من المفروض أن تعبر عن نفسها بشكل قوي إبان مرحلة الأزمات من خلال الأفكار والأفعال بدل سياسة الغضب والاحتجاج والصراخ، وهنا كان الملك يعطي دروسا لكفية التعامل في مرحلة الأزمات من خلال التركيز على الدولة الأفقية، دولة الإجماع، وليس على الدولة العمودية، خصوصا أن مواجهة الأزمات من خلال الاعتماد على الدولة العمودية فتح المجال للفوضى والعنف، والتجربة الفرنسية خير مثال على ذلك، حيث نهجت المؤسسات الفرنسية استراتيجية الدولة العمودية ودولة المؤسسات في مواجهة الشارع (الأحداث التي عرفتها فرنسا مؤخرا)، من خلال الاعتماد على المشروعية البرلمانية في مواجهة احتجاج الفرنسيين، مما ساهم في عزلة البرلمان الفرنسي وعزلة الرئيس الفرنسي كذلك عن المجتمع وعن الشارع، بينما المؤسسة الملكية أعطت دروسا مهمة في ضرورة الاعتماد أولا على المشروعية الشعبية في مواجهة الأزمات، وجعل المشروعية البرلمانية في خدمة المشروعية الشعبية.
وبعد ذلك انتقل الملك للحديث عن مراجعة مدونة الأسرة وعلى أن الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع حسب الدستور، وأن تفكك الأسرة يفقد المجتمع البوصلة، وهنا وجب التأكيد أن حديث الملك عن تغيير المدونة هو انتقال بالسياسة باعتبارها تعبيرا عن المشترك بين الناس إلى استراتيجية نقل المشاكل المجتمعية الخاصة إلى المجال السياسي والعمومي، وهنا نستحضر تأكيد الفيلسوفة حنا اراندت أن السياسة هي القدرة على تحويل العالم المتنوع إلى عالم مشترك، وأن انتقال رجل الدولة من الحديث عن السياسي إلى الحديث عن الاجتماعي في الزمن الحديث، هو نقل المشاكل الخاصة إلى المجال العمومي، وهو كذلك محاولة للجمع بين “الشأن العام” و”الشأن الخاص”، وكذلك الانتقال من تطوير الشأن الجماعي والمشترك إلى تطوير الشأن الفردي. وبالتالي، فإن السياسة في العصر الحاضر لا يمكن أن تنكر العلاقة والترابط بين الفردي والجماعي، وهنا نستحضر الفيلسوف كارل ماركس وتأكيده على ضرورة الترابط بين التقدم الجماعي والتقدم الفردي (الفردي-المشترك).
وفي الأخير تحدث الملك في خطابه عن ورش تعميم التغطية الاجتماعية وتنفيذه وحكامته؛ تأكيد الملك من جديد على ورش التغطية الاجتماعية من داخل الزمن الدستوري لالتقاء المؤسستين (المؤسسة الملكية-المؤسسة البرلمانية)، هو تأكيد من المؤسسة الملكية على حرصها على إدماج المنسيين والمقصيين، ونعني بالمنسيين والمقصيين الفئات التي لا تتيح لها طريقة اشتغال المؤسستين البرلمانية والحكومية القدرة على إيصال مطالبها إلى المستوى المؤسساتي لأن ميكانزمات اشتغال المؤسستين (البرلمان-الحكومة) تمنعها من التعبير ولا تتيح لها إيصال صوتها؛ لأنها بكل بساطة لا تتمتع بنفوذ إعلامي ولا نفوذ ضمن مراكز الضغط ومراكز النفوذ التي تلعب دورا مهما في تحديد الأولويات ضمن أجندة المؤسستين.
في التجارب الدولية يعاب على المؤسسات الوطنية أنها مؤسسات الأغنياء ومؤسسات الرابحين ومؤسسات الأقوياء، وبالتالي برز إلى الوجود ما يطلق عليه دولة النخب وكذلك دولة الشعبويين، المؤسسة الملكية كانت تريد أن تؤكد أنها تمثل الكل وتعبر عن الكل، وبالتالي هي مرتبطة أكثر بالمشروعية الشعبية؛ هذا الارتباط سيجعلها دائما تصحح أخطاء السياسات العمومية التشريعية والحكومية، من خلال الاهتمام بمن تتركهم هذه المؤسسات على قارعة الطريق أو من لا تهتم بهم هذه السياسات أو العاجزين عن إيصال مطالبهم إلى أجندة هذه المؤسسات.
الخطاب الملكي الأخير وترسيخ مملكة التغيير بدل المملكة المحافظة:
الرسالة الأساسية التي يستخلصها المتتبع للشأن العام بالمغرب مرتبطة بكون الملك أراد أن يرسخ إيمانه بما يطلق عليه “سياسة الفعل” وسياسة سرعة الفعل، وأراد أن يوجه رسالة إلى الخصوم مفادها: اصمتوا إننا نشتغل. سياسة الفعل بالنسبة للمؤسسة الملكية مرتبطة بإرادة الفعل والتغيير والبحث عن الجديد، وهنا كانت المؤسسة الملكية تختلف مع ما قاله الفيلسوف اونطونيو كرامشي “القديم يموت والجديد يجد صعوبة في الولادة”، بينما المؤسسة الملكية كانت تؤكد أن الجديد يحتاج فقط إلى الإرادة والإصرار والتصميم، وأن معالمه صارت واضحة للعيان وللمتتبع، وهنا وجب التأكيد أن صورة رؤساء المؤسسات المالية الدولية وهي تستمع لقول المؤسسة الملكية، هي رسالة مفادها أن الآية قد انعكست وأنه إذا كان مغرب المؤسسات في السابق يقف في موقف المستمع والمنفذ لبرنامج التقويم الهيكلي لهذه المؤسسات، فإنه جاء الوقت لتستمع هذه المؤسسات للتجربة المغربية الناجحة من أجل الاستفادة منها ولمَ لا تعميمها، وأن العقل المركزي المغربي في طريقة للعمل من داخل استراتيجية إعطاء الدروس للمؤسسات الدولية، وليس العكس.
كما أن المستمع للخطاب والمتتبع للشأن العام المغربي، بدأ يملك القناعة بأن مغربا جديدا يولد، وأن هذه الولادة ليست ولادة سهلة، بل ولادة عسيرة تتطلب وجود القادة السياسيين الذي يؤمنون بالتغيير ويؤمنون بالجديد ومستعدون للحركة والفعل من أجل الوصول إلى الأهداف.
ومن المعروف أن هناك نوعين من الزعماء في العالم “الزعماء المحافظين” و”زعماء التغيير”. الباحثة البريطانية في علم السياسة دينيس ماكشان تؤكد أن مرحلة بداية الثمانينات في أوروبا، وخصوصا بالنسبة لفرنسا وبريطانيا، منحت لنا زعيمين متناقضين: زعيم محافظ هو الزعيم الفرنسي فرنسوا ميتران، وزعيمة تؤمن بالتغيير وبالحركة وبالجديد لبريطانيا هي مارغريت تاتشر. الزعيم الفرنسي المحافظ فشل في نقل بلده إلى الرقي، بينما الزعيمة البريطانية أهلت بلدها للخروج من النفق والانطلاق إلى الأمام، وهنا يكمن الفرق في النتائج بين الزعماء المحافظين وزعماء التغيير.
نقل البلدان من خانة البلدان المحافظة إلى خانة البلدان التي تشهد تغييرات جوهرية، لا يمكن أن يتم إلا من خلال وجود قادة يؤمنون بالتغيير، ومن خلال الزعماء الذين يختارون طرق الفعل السريع وطريق التغيير والطريق التي تقود إلى المستقبل، والزعماء الذين يرفضون العمل تحت سقف الستاتيكو. ويحسب للمؤسسة الملكية أنها مؤسسة تعمل تحت سقف القادة الذين يحملون مشروعا للتغيير وأنها ملكية تستعمل الطريقة الهجومية، وليس الطريقة الدفاعية، من اجل فتح الطريق أمام بلدها من أجل حجز المكانة اللائقة به في مصاف الدول التي تشهد تغييرات مهمة.
الخطاب الملكي الموجه بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية كان خطابا تحت سقف خطاب السياسيين غير المحافظين والسياسيين الذين يعرفون متى يستعملون دواس السرعة، وكان كذلك خطابا للقادة السياسيين الذين يشتغلون من داخل مربع قدرة السياسية، وليس مربع عجز السياسة، وكان خطابا كذلك يوضح أن الفعل السريع أساسي، وأن قطار التقدم لا ينتظر كثيرا في محطاته، وأن معسكر المنتصرين في العالم هو معسكر محجوز للمسرعين، وأن المجتمعات المعقدة والصعبة تحتاج فقط إلى القرارات القادرة على تفكيك المعقد وتصحيح الوضع من أجل الانطلاق. وبالتالي، فإن البلدان في حاجة إلى الزعماء الذين يفهمون شعوبهم، وأن المجتمعات المتوقفة والمجتمعات التي لا تتحرك إلى الأمام هي مجتمعات محكومة بالستاتيكو.
الخلاصة:
يحسب للخطاب الملكي الأخير أنه يندرج ضمن ما يطلق عليه “التفاؤل بالمستقبل المفتوح”؛ هذا العنوان هو عنوان عكسي لما سبق وأكد عليه الباحثان روبير لافونت وكلمان ليفي بعد سقوط الشيوعية وانهيار الأحلام في المستقبل الوردي، حيث أكدا ما أطلقا عليه “فضيحة المستقبل الموصد”. التفاؤل بالمستقبل المفتوح يعتمد على فكرة التطور والتقدم التي تحضر بقوة في الفعل وفي القول الملكيين، ويعتمد كذلك على الثقة الشعبية الراسخة بأن المؤسسة الملكية اليوم هي مؤسسة قادرة، والمؤسسة القادرة والمؤمنة بالتطور والتقدم هي المؤسسة القادرة على تغيير السلبي والمتجاوز بالإيجابي والحديث من خلال الفعل والعمل والإرادة.
المصدر: وكالات