في أحدث كتب السيميائي المغربي سعيد بنكراد اهتمامٌ بـ”النص القرآني”، من أجل “قراءة نصوص تصنف ضمن المتشابه فيه”، و”استنطاق ذاكرة نصوص تعيش في حدث ليس سوى وجه ظاهر لمجموعة من الدلالات التي تمتد خارج المشخص فيها”، و”تنتشر في محكيات كانت جميعها تعبر عن شرط الإنسان وقلقه”.
مؤلف “السرد الديني والتجربة الوجودية” الصادر عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، مطلع السنة الجديدة 2024، يهتم بـ”قصة الإنسان على الأرض كما روتها الأساطير منذ آلاف السنين، وكما كتبت بعض تفاصيلها حكايات أنبياء ورسل، أوكل لهم تصحيح وضع يخص السلوك أو السلطة”، في سبيل التأكيد على أن “القصص التي قرأناها ونحن صغار، وما زلنا نقرؤها ونحن كبار، ويقرؤها اليوم الآلاف من المؤمنين، تُخفي حقائق أخرى غير ما يقوله منطوقها، وبعض من هذه الحقائق هي ما كان يقود خطانا، وهو ما كان ينير طريقنا”.
ومن القَصص القرآني الذي يهتم به هذا الكتاب الجديد، قصة النبي إبراهيم مع النار والأصنام، وقصة النبي الملك سليمان، وقصة النبي يوسف مع الجُب والإغراء، وقصة النبي موسى مع سحرة فرعون، وقصة الخلق، وقصة النار “بين القدسي والاستيهام الجنسي”.
يذكر السيميائي بنكراد أن “المحكيات الدينية وشبيهاتها في المثل والحكمة، هي (نماذج سلوكية) جاهزة يُنظر إليها باعتبارها (حياة سابقة) يجب مُحاكاتها والاهتداء بتعاليمها (…) وبعضها وثيق الصلة بما يُمكن أنْ يَترتب عن إكراهات الانتماء المذهبي وجُنوح الناس داخله إلى نسج الكثير من المحكيات وتأويلها وفق ما يخدم غايات موجهة لخدمة المذهب أو الطائفة أو المعتقد الديني عامة”.
ويتابع: “النصوص احتمالات دلالية فحسب، وذاك ما يُشكل لا زمنيتها في تصور المؤمنين بها، وهي أيضاً مصدر طاقاتها الدلالية في عرف من يبحث فيها عن معانٍ لا ترتبط بالمشخص فيها؛ إنها في الحالتين معاً لا تحمل معناها أو معانيها في ذاتها، بل تستمد جزءاً منها من المعتقد أو من قُرائها”، فهي “إحالة على الخبرة الدينية باعتبارها تدبيراً لـ(قلق) هو ما يميز حضور الإنسان في العالم، انفتاحه المزدوج على ما يوجد خارجه واستيعابه في المعنى لما يتسرب إلى وعيه”.
وهنا يبرز السرد باعتباره يُمكن الإنسان من “تشخيص” الكثير من المواقف التي “نتحاشى التعبير عنها بشكل مباشر”.
ويواصل بنكراد حديثه عن قراءة النصوص قائلا إن بعضها مستمد من إمكانات “استعمالها” في “مجالات السياسة والإيديولوجيا والاجتماع”؛ وقد تكون غاية ذلك “استخراج قاعدة سلوكية أو استنباط حكم مقاصدي أو بلورة قاعدة قانونية يعتمدها الناس في تدبير شؤونهم في الفضاء العمومي”.
هنا قد “يتعلق الأمر بتبرير لسلوك في حاجة إلى غطاء ثقافي يُضفي عليه شرعية يقبلها الدين أو يُجيزها أو يُشير إلى “الاستحبابِ” أو “الاستكراهِ” فيها”، فيكون بالتالي “محاولة لاستعادة كل الحالات التي تستعصي على الضبط ضمن ما حُرم أو أُحِل داخله”.
أو قد تكون قراءة النصوص “محاولة للتعبير عن ميلٍ راسخٍ في نفس المؤول”، ذاك الذي يبحث فيها “عما يُؤكد قناعاته ويحولها إلى نموذج واجب التعميم. وهناك في التاريخ ما يُثبت ذلك. فقد اقتتل أصحاب الفِرق فيما بينهم وما زالوا استناداً إلى النص الواحدِ. فالمرجئون والقدريون وأصحاب الاختيار والتسيير يستمدون أحكامهم من النص نفسه، ولكنهم يوجهونه لكي يَصْدق على معنى دال على الإرجاء أو القدرية أو الاختيار”.
هذه أيضاً “حالةُ المذاهب، فما يفصلُ الشيعةَ عن السنة مثلاً ليس تنوعاً في النصوصِ، فالقرآنُ هو المصدرُ عند الفريقين، بل اختلافُ في تأويلها”، كما “تعددت الاشتراكيات في عصرنا أيضاً وتنوعت إيديولوجياتها واقتتلَ المناضلون فيما بينهم بسبب اختلافهم في تأويلِ أدبيات ماركس أو لينين”.
هذه النصوص إذن “خزان من دلالات لا يُمكن حصر عددِها إلا بالعودة إلى سياقات جديدة تبنيها الطاقات الاستعارية داخلها”؛ فـ”بعيداً عن الحكم الفقهي، أو فيما هو أعمق من الغايات الوعظية للحكاية؛ تتسلل “رغباتٌ” و”حيرةٌ” و”خوفٌ” وأشكالٌ كثيرةٌ من “قلقٍ” وجودي رافق الحياةَ الإنسانية على الأرضِ. لذلك وجب تَدَبرها في انفصالٍ عن معناها الحرفي، وفي انفصالٍ عن الغايات المقامية التي تشترطها الأحكامُ المقاصدية، أو تُشير إليها الوقائعُ المروية في الوقت ذاته”.
ويدافع بنكراد في أحدث كتبه عن أن السرد “ليس تاريخاً، ولا يُحاكي سلوكاً واقعياً، كما قد تُوهِم بذلك تجلياتُه المباشرة، بل يُسقط “عالماً ممكناً” تستوعبه المحكيات، وهو ما يمكن أنْ يكون معادلاً مُشَخصا لما استعصى على التجريد المفهومي”؛ فرغم أن النصوص الدينية قد لا تخلو من التاريخ، إلا أنها “تفعل ذلك بطريقتها الخاصة”؛ فـ”تُعيد صياغة وقائعه في شكل استعارات تختفي في الغالب في تفاصيل السرد. فلا وجود لتطابق كلي بين حقيقة الواقعة في ذاتها باعتبارها فعلاً مادياً، وبين تأويلها في اللغة”.
ثم يوضح سنده في هذا الحُكم: “بما أن الشكل الوحيد الممكن لوجود الأشياء هو وجودها في اللغة، فإن القول فيها أو عنها لا يكتفي بوصفها، بل يتضمن قصد الواصف أيضاً، فما هو موصوف في العالم الخارجي لا يُمكن أنْ يكون استنساخاً لما يَتم تمثيله في الكلمات، بل هو نسخة معدلة منه؛ أي: تأويل له”.
وهذا أيضا “مصدر كل تعبير استعاري”، لأن “ما لا تستطيع اللغة تسميَته أو وصفه بشكل مباشر، وما لا يستقيم ضمن إكراهات “الأنا”، ببعديها الذاتي والأعلى، تلتقطه أشكال وصيَغ استعارية يكون مُضْمرُها المجرد عادة هو بؤرة المعاني وغايتها النهائية”. مما يعني أن “الصيغ المجازية تُمكننا من “خرق” القوانين التي تتحكم في التداول اليومي للأشياء والكائنات والكلمات، وتَتحكم في العلاقات القائمة بينها، وذاك سبيلها إلى بناء معانٍ كثيرة لم تستطع التجربة المشتركة استيعاب حدودها القصوى”، وهو ما “يَصدق على كل النصوص؛ قديمِها وحديثِها”.
ويقدر بنكراد أن هذه الحالة “هي مبرر وجود النص وأصل المتعة الجمالية فيه أيضاً”؛ فقد “ارتبط الفكر الإنساني في مراحل مُتقدمة من تاريخه بالصيغ الاستعارية في المقام الأول، فلم تكن اللغة في تصور الكثير من الشعوب تُجرد عالماً، بل كانت تَكشف عن جوهر أشيائه وكائناته من خلال كلمات هي صور تُشخصها في الذاكرة وتضعها نظيراً أو بديلاً لها”.
ويرى بنكراد أن “محكيات الخلق، بكل أنواعها”، لا تشكل سوى “محاولة مشخصة لاستعادة “زمنية قدسية” هي لحظة “البداية” المفترضة في تاريخ الوجود الإنساني على الأرض. وهي إشارة إلى أن البداية ليست في الزمن، بل هي كذلك في المعتقد، لذلك تتعدد أشكالها وتتنوع دون أنْ تتغير مضامينها، فنحن، في الحالتين معاً، لا نستطيع الفصل، داخل هذه الزمنية المفترضة، بين قَلق مرتبط بضياع البدايات وبين خوف مبعثه غموض النهايات”.
ويتابع: “ما ترويه الأساطير عن بدايات الكون، وما تُفَصل الحكايات القول فيه عن أصل النار والماء، وعن أصل الظلم والعدل والخير والشر؛ لا يُشير إلى وقائع فعلية، بل هو صياغة مشخصة لمضامين مجردة، أو كان بلورة لقصة شاملة يمكن أنْ تكثف داخلها كل الحالات التي سعى فيها الإنسان إلى التخلص من ربقة الظلم بحثاً عن الحرية”.
ويتعلق الأمر في كل هذه السياقات القصصية بـ”طريقة تروي بها البشرية لنفسها كيف تعلمت التمييز بين ما يجلب لها النفع وما يأتيها بالضرر وحده”؛ فـ”لن يكون صراع حْدِيدوان (احديدان) الدائم مع الغولة التي تريد افتراسه سوى محاولة لاستعادة قصة الظلم الاجتماعي الذي عانى منه الإنسان، شأنه في ذلك شأن عنترة العبسي الذي يعيش كل العشاق، من خلال قصته، قصةَ عشقهم المجهض”.
كما “قد يتعلق الأمر باستعادة لحدث عظيم له حقيقته في التاريخ، ولكنه تحول في ذاكرة الناس ومخيالهم، بحكم عظمته وطابعه الاستثنائي، إلى شكل أسطوري تبنته الكثير من الحضارات لتفسير ما استعصى عليها في الفهم والتدبر والتفسير، كما هو الشأن مع حكاية الطوفان الذي أغرق كائنات الأرض في لجة لم ينجُ منها سوى (أهل السفينة)، وهم قِلة من المؤمنين اعتقدوا في الحق صوتاً وحيداً للوجود”.
ويرى بنكراد أن الطوفان لا يمكن أن يكون “في الغالب سوى استعارة شاملة تُشير إلى رغبة البشرية في التجدد والانبعاث من خلال التخلص من زمنية “شريرة” وإسقاط أخرى تبشر بالصدق والخير العميم، وهو التأويل الذي تبناه الكثير من الباحثين”، كما “لم يكن البحر الذي انشق في سيناء وابتلع الفرعون أيضاً سوى مستنقعات منتشرة في صحراء سيناء، كما يذكر ذلك بعض المؤرخين، وبعد ذلك اتسع مداها وتحولت في ذاكرة الناس وعقائدهم إلى بحر تتلاطم أمواجه”.
وهذا “لا يُقلل من شأن القصة التي تروي صراع نوح مع أهله، ولا قصة موسى مع الفرعون، ولا يمس قدسيتها أيضاً، بل قد يمنحها قوة أعمق وأوسع حين يُصبح الفعل الموصوف في القصة استعارة كبرى دالة على قوة إيمان هؤلاء الذين آمنوا بدين نوح وموسى”؛ فـ”الابتلاء جزء من طقس استئناسي يتعلم من خلاله المريد كيف يصل إلى قمة العشق. وهو ما تثبته النار التي تقول القصة إن إبراهيم أُلقي فيها وكانت عليه برداً وسلاما”.
وبالاستناد إلى هذه المبادئ، يرى الأكاديمي أن من الواجب “التعامل مع النصوص الدينية، القصصية منها على وجه الخصوص، باعتبارها “طبقات” دلالية متراكبة، أو باعتبارها سلسلة من المقاصد الضمنية التي تختفي في الوجه المشخص للحدث المروي، أو في تفاصيل الأحكام الموصوفة في القصص”؛ لأن “ما يبدو في الظاهر وكأنه مجرد تمثيلات مشخصة لحالات وعي أو كائنات قابلة للاستحضار البصري، سيتحول إلى حامل لدلالات من طبائع شتى لا يمكن أن تَستكين إلا في المفاهيم”.
قبل أن يخلص إلى أن “القصة ليست أحداثاً فحسب، بل هي مجموعة من السجلات الثقافية التي تخبر عن قلق الإنسان ورغباته واستيهاماته وتصوراته عن الموت والحياة، وكذا عن طقوسه في الحزن والفرح، كما كانت سجلاً لملبسه ومأكله ومعماره … لذلك قد تقول من خلال ذاكرتها القيمية أكثر مما تقوله من خلال أحداثها، بل قد لا تكون للأحداث في ذاتها أية قيمة خارج إحالتها على مضمون رمزي هو الباعث الأول والأخير على السرد”.
والإنسان، وفق بنكراد، أسير “ما يأتي من الأساطير والمحكيات المختلفة، فانطلاقاً منها يتبلور جزء كبير من تصوراتنا للحياة والموت وبدايات الوجود على الأرض ونهايته”؛ بل “نُدَبر سلوكنا السياسي والاجتماعي والعاطفي ذاته في الكثير من الأحيان استناداً إلى مجموعة من الأحكام المستمدة في المقام الأول مما بُني فيها. فما يُخبر عن “الحقيقة الكلية” للكون، عن مصدره ومآله، هو ذاته ما يستوطن المتخيل ويعشش فيه، فالناس يثقون عادة في احتمالية الحكايات، لا في يقين المفاهيم وأحكام العلم (في مجال المعتقدات الدينية)”.
وهذا ما تُشير إليه الكثير من قصص الأنبياء؛ فقصة يوسف في البئر، ويونس في بطن الحوت ونعل موسى، والنار التي كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وسليمان وجيوشه و”غيرها من الحالات المروية في أفق استثارة مضامين استعارية تحاكي من خلالها حالات النفس، والاستئناس والرسالة وحرقة المعرفة الجديدة”، وهي أيضاً قصة آدم مع زوجه ومع الشيطان؛ “وقائع تنبئ عن انبثاق زمنية لا يمكن أنْ توجد إلا من خلال خرق المنع والقبول بقضاء الفناء”.
وبعبارة أخرى، يكتب بنكراد: “المنع قدر الوجود، والنعل هو تماس مع الحقيقة الجديدة، والجُب ليس جباً إلا في الذاكرة البرانية، أما في الوجدان فهو شبيه بالظلام والقبر والموت والاندحار نحو حالة بدئية هي الولادة والبعث الجديد، تماماً كما هو بطنُ الحوتِ مفراً أو مَهرباً أو خوفاً من رسالة لو وُضعت على الجبال لرآها الناس خاشعة متصدعة من خشية الله”.
ويستجيب هذا الكتاب لضرورة تدبر “القصص”؛ لأنها تحتاج لأن تُخلص “من شكل التجلي للإمساك بالجوهر التجريدي فيها، فهو المضمون الصامت لما تقوله الكلمات جهراً”؛ لأن “المروي في هذه النصوص ليس في الغالب من الحالات سوى غطاء” و”الكلمات أوسع قصداً من قصد المؤلف. وهذا ما يفسر اختلاف الفقهاء في تأويل نص لا أحد منهم يشكك في مصدره. وهو ما يفسر أيضاً قناعتهم بأن هذه القصص ناقصة، فهي لا يمكن أن تصبح قابلة للتداول إلا إذا نفخ فيها من داخلها”.
وبالتالي، فهذا العمل الجديد محاولة للإسهام في “بلورة فهم جديد للنص لا يقوي الإيمان ولا يشكك فيه، ولا يحرم ولا يحلل، فهذا أمر يخص الفقهاء والدعاة، بل يقودنا إلى استعادة زمنية خاصة بنا، ولكنها قادرة على احتضان كل ما أنتج ضمن الزمنية الإنسانية. وهي طريقة نتعلم من خلالها كيف ننتمي إلى الأمة وكيف ننفتح على ما يوجد خارجها”، بمحاولة “استعادة ساكنة أخرى من طبيعة تخييلية تُعد بالملايين ولا يتحكم فيها أحد”.
المصدر: وكالات