بمناسبة حفل تقديم وتوقيع رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، للأديب عبد الفتاح كيليطو، الذي نظمته مكتبة الألفية الثالثة بشراكة مع شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب، قالت الكاتبة والإعلامية المغربية غادة الصنهاجي إن عبارة قوية في كتابه “التخلي عن الأدب”، “يتساءل فيها كيليطو قائلا عن أحد أساتذته: هل كنا في مستواه، أقصد هل كنا نستحقه؟”، قد شدت انتباهها.
وأوضحت غادة الصنهاجي، في ورقة/مقالة لها بعنوان “كيليطو وأسطورة الرواية المجنحة”، أن رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، تُعد أول مؤلف سردي كتبه أو ربما نشره عبد الفتاح كيليطو باللغة العربية التي فضل فيما قبل أن يكتب بها بعض أعماله النقدية فقط”.
وبعدما تطرقت الكاتبة والإعلامية المغربية لمجموعة من الجوانب المرتبطة بالرواية، ختمت مقالها بتأكيد أن “خطورة كتاب (والله إن هذه الحكاية لحكايتي) تكمن في استهدافه لقراء الحاضر والمستقبل، وفي حكاياته المروية في صور، وفي أماكن مختلفة وأزمنة متعددة ومسافات طويلة يقطعها القارئ عبر ألف ليلة وليلة ومنمنمات الواسطي ومقامات الحريري وكتب التوحيدي…”.
وهذا نص المقالة:
تزامن إعدادي لهذه الورقة مع قراءتي لأحدث الأعمال الفكرية للكاتب عبد الفتاح كيليطو، وهو كتاب “التخلي عن الأدب”، الصادر عن منشورات المتوسط بإيطاليا والمتوقع أن يصل إلى المغرب في غضون الأسابيع القليلة المقبلة. في هذا الكتاب، شدتني عبارة قوية يتساءل فيها كيليطو قائلا عن أحد أساتذته: “هل كنا في مستواه، أقصد هل كنا نستحقه؟”.
لقد كان يعني كيليطو في تساؤله هذا أستاذه الفرنسي غابرييل بونور، الذي درسه الأدب الفرنسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في ستينات القرن الماضي.
إن التنويه بالأستاذ بونور في هذا الكتاب لا يخلو من تنبيه لنا جميعا، كقراء ومهتمين بالأدب، إلى الكنوز الفكرية التي تكون بين أيدينا دون أن ندرك قيمتها كما يجب. ولهذا، ربما وأنا أكمل قراءة هذا الكتاب رددت في نفسي تساؤلا على نهجه: هل نحن في مستوى كيليطو، أي هل نستحقه؟
سوف أقرأ اقتباسا من كتاب “التخلي عن الأدب”، قبل أن ندخل صلب رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” موضوع هذا اللقاء وإن كنا لا نستطيع فصلها عن باقي أعمال عبد الفتاح كيليطو، الفسيفساء الأدبية التي تشكل وتتشكل لوحاتها على اختلاف أساليب عصورها الإبداعية.
هذا الاقتباس له ارتباط وثيق بما يجمعنا اليوم، هذا اللقاء، لقاء القارئ بالمؤلَّف تمهيدا للقاء هذا القارئ بالمؤلِّف. يقول كيليطو في هذا المقتطف: “من الواضح أن القارئ لا يقترب من مؤلف، من كتاب، وهو صفر اليدين، إنه من بلد، من لغة، من زمن محدد، وله انشغالات وانتظارات، توقعات وتصورات تكونت من خلال ما سبق أن قرأه، وعلى الأخص من خلال الأدب الذي نشأ في أحضانه. ما هو شعوره حين يقبل على قراءة مؤلف جديد؟”.
يجيب كيليطو بأن القارئ “يتوق إلى اكتشاف ما لم يكن يعرفه، شوق مصحوب بقلق مكتوم، لقاء مع عالم غريب لا يستطيع أن يتنبأ بما سيسفر التنقل في أرجائه. تظهر أمامه طرق مختلفة، ويقترن تخوفه من الضياع برغبة في أن يجد بعض ما يعلم وأن يطمئن شيئا ما. لهذا، يترقب أدنى علامة على ثقافته وهو يقرأ، على ما عاشه وجربه”.
لكن التساؤلات التي تقتحم عوالمنا كقراء، هي من قبيل: كيف نقرأ كتابا لكيليطو؟ هل هناك طرق معينة لقراءته؟ بأي كتاب من كتبه نبدأ؟ وهل تحتم علينا قراءة أحدها العودة إلى آخر؟ هل يمكن أن نقرأ كتابا بمعزل عن غيره؟ هل هذه الكتب مرتبطة في انفصالها، وهل هي منفصلة في ارتباطها؟ والأهم ما الذي يميز قارئا عن قارئ؟ وما الذي يراه كل قارئ؟ أو بالأحرى ماذا يكتشف فيها كل قارئ؟
لقد ذكر المفكر عبد السلام بنعبد العالي، في كتابه المعنون بـ”عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللسانين”، كيف طرح كتاب “الأدب والارتياب” لعبد الفتاح كيليطو على القارئ منذ الوهلة الأولى معضلة قراءته. ويذهب بنعبد العالي إلى أن المؤلف نفسه هو الذي يساهم في وضع قارئه في ارتباك من أمره؛ فهو يفضح، منذ الصفحات الأولى لكتابه، عملية التأليف وما تفترضه من علاقة عداء بين المؤلف والقارئ، وأن المؤلف على كامل الوعي بالمخاطر التي تنتظره، وأنه مدرك أن “الخطر ماثل، والعدو له بالمرصاد”. من هو هذا العدو؟ يؤكد بنعبد العالي أن الأمر لا يتعلق فحسب بما قد يصدر عن أنداده الكتاب، وإنما بالعدو الأكبر، أي القارئ.
وعودة إلى روايتنا موضوع اللقاء “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، هذا العمل يعد أول مؤلف سردي كتبه أو ربما نشره عبد الفتاح كيليطو باللغة العربية التي فضل فيما قبل أن يكتب بها بعض أعماله النقدية فقط. وقد أشار المترجم عبد الكبير الشرقاوي، في تقديم كتاب “مرايا”، الجزء الخامس من الأعمال الكاملة لعبد الفتاح كيليطو، إلى أن هذا الكتاب يضم الترجمة الكاملة لمجموع الأعمال السردية لكيليطو، وأنها تتوزع بين الرواية والمجموعة القصصية والقصص المتفرقة، وهي أعمال سردية مكتوبة في أصلها باللغة الفرنسية. الأمر الذي يدفعنا كقراء إلى أن نفكر في سر كتابة عبد الفتاح كيليطو رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” باللغة العربية، كما يدفعنا إلى أن نتأمل طبيعة هذا النص الأدبي ذي الطابع اللامحدود واحتمال تخفيه في الرواية؛ الشيء الذي يجعلنا كقراء في حيرة من أمرنا، فهل السرد هنا يقدمه الكاتب الناقد أم النقد هنا على لسان الكاتب السارد؟ ها نحن قد نتحول بهذه التخمينات إلى قراء أعداء.. ربما كان كيليطو صادقا فيما يتعلق بعداوتنا؛ لكن أليس صحيحا أن المحبة الحقة لا تأتي إلا بعد العداوة؟
لنحاول أن نرى ما الذي يجري في هذه الحكاية، ودخولا نمر أولا عبر العتبة وهي عبارة لكافكا تقول “ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو”، هذا الاقتباس يجب على القارئ تجنب إغفال أهميته، فما يضعه كيليطو خارج المتن هو أهم ما يعتز به هذا الكاتب في كتبه، وهو ما لم يغفل عنه عبد السلام بنعبد العالي في دراسته التي أشرنا إليها والتي بين فيها أن الاستشهاد ينم عن قدرة استكشافية لدى المقتبس وعلى براعته في الاهتداء إلى ما يناسب من أقوال غيره، فتغدو مصدر افتخار للمؤلف وتتخذ في عينيه أهمية تفوق النص ذاته.. حين يدرك القارئ ما ذهب إليه كل من كيليطو وبنعبد العالي فيما يتعلق بما يتم وضعه خارج المتن، فإنه غالبا سيعود إلى قراءة عبارة كافكا عند انتهائه من قراءة كل فصل من الرواية.
في إشارة موجزة إلى الحضور الكريم، كتبت عند صدور رواية “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” مقالا حولها عنونته بعبارة واردة فيها “يوجد دائما من يحكي قصتنا”. ولقد كان المقال ناجما عن قراءة أولى، وما إن أعدت مطالعة الرواية حتى وجدتني أمام روايات أخرى، فتأكدت أن كتب كيليطو ليست أبدا للقراءة مرة واحدة.
حسنا، أينبغي عليّ فعلا أن أخبركم بما قرأته في هذه الرواية؟ هل سيكون الأمر شبيها بأن أحكي لكم تفاصيل فيلم قبل أن تشاهدوه، فأضيع عليكم التشويق الذي كنتم ستعيشونه خلال متابعته؟ وهل المفاتيح التي فتحت بها أبواب هذه الرواية التي قرأتها من الممكن أن تفتح لكم أبواب الرواية التي ستقرؤونها وإن كانت هي نفسها؟ أشك في ذلك.. لكن هذا لا يمنعني من أن أحذركم من فتح الباب المحظور، كما فعل حسن البصري في حكايته وكما فعل آخرون غيره في مختلف فصول الرواية؛ لقد تعرضوا جميعهم لأنواع من عقاب المنتهك، لكن لماذا أخبركم بهذا؟ لماذا أكشف لكم سر المفتاح الذي أخفاه كيليطو في هذا الكتاب؟ هل هي دعوة لكم لتبحثوا عنه أم هو تحريض على فتح الباب؟ يقول كيليطو في فصل “قدر المفاتيح”: “لولا المنع، لما فكر (حسن البصري) في فتح الباب”.
إن خطورة كتاب “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”، ولقد تعمدت هنا قول “كتاب” بدل قول “رواية”، تكمن في استهدافه لقراء الحاضر والمستقبل، وفي حكاياته المروية في صور، وفي أماكن مختلفة وأزمنة متعددة ومسافات طويلة يقطعها القارئ عبر ألف ليلة وليلة ومنمنمات الواسطي ومقامات الحريري وكتب التوحيدي والجاحظ وابن خلكان وصولا إلى توفيق الحكيم، ثم حتما تتغير بعد قراءة هذا الكتاب أحوال القارئ.
أختم حديثي هذا بتساؤل لكيليطو في عمق حكايته المؤثرة على قرائه: “ما الفائدة من العناية بنصوص لا تغيرنا، ومن شأنها أن تتركنا رهائن لأنفسنا؟”.
المصدر: وكالات