استحضر الباحث المغربي الدكتور إدريس الكنبوري تزايد حدة السجال في المجال الديني داخل المشهد السياسي في المغرب، خصوصا مع تعديل مدونة الأسرة، داعيا إلى ضرورة توسيع وتجديد برنامج هيكلة الحقل الديني بحيث يشمل الخطاب السياسي؛ لأن الخطاب السياسي في الدين لا يقل خطورة عن الخطاب الديني خارج السياسة.
وأكد الكنبوري على أهمية مؤسسة إمارة المؤمنين في الحفاظ على الشأن الديني وتحويطه، ليس فحسب باعتبارها مؤسسة تاريخية عريقة ظلت ثابتة بثبات الدين في الدولة مع تعاقب السلاطين، بل أيضا باعتبارها مكسبا بيد المغاربة الذين يحرصون على أن يبقى الدين بمنأى عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية.
وشدد الباحث ذاته، ضمن مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”في الحاجة إلى إمارة المؤمنين”، على أن تزايد الجدل حول الدين والمحاولات المتكررة لاختراق البنية الدينية للدولة والمجتمع أصبح يهدد الاستقرار الديني للمغرب، وبزعزعة الثقة في الثوابت الدينية للمملكة.
وهذا نص المقال:
تزايدت، خلال الفترة الأخيرة، حدة السجال في المجال الديني داخل المشهد السياسي في المغرب؛ السجال الذي يتخذ من القضايا الدينية موضوعا له. وظهر هذا السجال، بوجه خاص، في النقاش حول تعديل مدونة الأسرة. ونقصد هنا تدخل الأحزاب السياسية في الشأن الديني، سواء تعلق الأمر بالعقيدة أو الشريعة، لكي نُخرج منه السجال حول الدين في المجتمع كيفما كانت طبيعة المتدخلين؛ وذلك أن وظيفة المجتمع ممارسة الحرية، بينما وظيفة الحزب السياسي ممارسة الضبط.
فقد ظهر، في الأشهر الأخيرة، جدل واسع حول قضايا المساواة في الإرث والمرجعية الإسلامية للدولة والتشكيك في الثوابت وحق الأحزاب السياسية في الاجتهاد الفقهي وغيرها. وبدا أن زمام النقاش تعرض للانفلات بشكل غير مسبوق، وما ضاعف من حدة ذلك الجدل خروجه إلى المجال العام بفعل مواقع التواصل الاجتماعي وسرعة النقل، والتطور الذي حصل في الأداء التواصلي للأحزاب السياسية من خلال استثمار هذه المنصات.
ووسط هذا الجدل الحاد لاحت مفارقة غريبة في المشهد الحزبي، وهي أن الأحزاب التي عرفت بوقوفها ضد استغلال الدين في السياسة أصبحت تحشر نفسها في الشؤون الدينية بشكل تجاوز بكثير أسلوب تعاطي الإسلاميين مع هذه الشؤون. ولاحظنا حالة من التسيب تمثلت في القفز على صلاحيات مؤسسة إمارة المؤمنين، حيث انخرط البعض في سجال مع المجتمع بعيدا عن هذه المؤسسة التي هي المسؤول الأساسي عن الشأن الديني، وكأن القضايا الدينية يمكن الحسم فيها من خلال هذه المواجهة، ومن خلال موازين القوة السياسية في المغرب، وليس من خلال مؤسسة تاريخية مستقلة ترعى الثوابت التي لا تخضع لموازين القوة المتغيرة.
ويبدو أننا في حاجة إلى التأكيد على أهمية مؤسسة إمارة المؤمنين في الحفاظ على الشأن الديني وتحويطه، ليس فحسب باعتبارها مؤسسة تاريخية عريقة ظلت ثابتة بثبات الدين في الدولة مع تعاقب السلاطين، بل أيضا باعتبارها مكسبا بيد المغاربة الذين يحرصون على أن يبقى الدين بمنأى عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية، ويرون أن دورها مرتبط بهويتهم الدينية والحضارية، إذ من طبيعة السياسة النفعيةُ وتقدير ميزان القوة في الفضاء العمومي واستثمار الرساميل الرمزية، سواء كانت الدين أو التاريخ أو الاستشهاد والتضحية، من أجل توسيع دائرة المكاسب السياسية وملء الماعون الانتخابي.
لقد وضع المغرب، قبل عشرين سنة، برنامجا شاملا لإعادة هيكلة الحقل الديني. وقد همّ ذلك البرنامج إعادة النظر في جملة أمور؛ من بينها الخطاب الديني في المساجد وعلى المنابر. وكان الهدف ضبط المجال الديني وحمايته من مختلف أشكال التسيب، ومحاربة التطرف الديني.
ونعتقد أن هذا البرنامج بحاجة إلى توسيع وتجديد بحيث يشمل الخطاب السياسي، لأن الخطاب السياسي في الدين لا يقل خطورة عن الخطاب الديني خارج السياسة. فليس المسجد وحده من ينتج الخطاب الديني، بل إن الفاعل السياسي ينتج خطابه الديني بطريقته؛ بيد أنه إذا كان المسجد خاضعا للضبط تحت رقابة المؤسسات الراعية، فإن الخطاب الذي ينتجه الفاعل السياسي لا يخضع لهذا الضبط. ومن هنا، قد يحصل الانزلاق داخل حقل السياسة بأكثر مما يمكن أن يحصل داخل حقل الدين.
في الأسبوع الماضي، طرح حزب الأصالة والمعاصرة ـ على سبيل المثال ـ سؤالا على وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية حول التسيب في الفتوى الدينية، وهذه قضية جديرة بالنقاش الذي يبتعد عن السطحية. تُفهم الفتوى على أنها كلام في الدين، ويعرفها الفقهاء بأنها رأي يصدره مجتهد على غير وجه الإلزام، ويمكن تعريفها بلغتنا الحديثة بأنها اقتراح طالما أنها لا تتلبس بالإلزام، والسؤال هو: هل نُعرف الرأي في الدين باعتبار مصدره أم باعتبار مضمونه؟ بمعنى آخر: هل الفتوى أو الرأي يُنظر فيها إلى الجهة التي تصدر عنها أم إلى المضمون الذي تحويه؟.
نحن نلاحظ أن بعض الفقهاء أو الأشخاص ذوي الثقافة الدينية عندما يصدرون رأيا معينا في الدين غالبا ما يتم التصدي له من طرف الفاعل السياسي في المغرب باعتباره فتوى، وإن لم يكن كذلك في نفسه؛ لأن هذا الفاعل السياسي ينظر إلى ذلك الرأي باعتبار مصدره، أي الشخص الذي أطلق ذلك الرأي، بالرغم من أنه لا يمثل جهة رسمية ولا يملك الشرعية لإصدار الفتوى.. بيد أننا إذا نظرنا إلى الفتوى أو الرأي باعتبار مضمونها لا باعتبار مصدرها فإننا سنعد ما يدلي به الفاعل السياسي في الدين فتوى دينية؛ لأن ما يدلي به يحمل مضمونا يتعلق بالدين، سواء سماه رأيا أو سماه موقفا.
وبناء على هذا، فإن الآراء التي أدلى بها بعض الأمناء العامين فيما يتعلق بالقضايا الشرعية في مدونة الأسرة تعد نوعا من الفتوى باعتبار مضمونها لا باعتبار مصدرها، وتندرج ضمن إطار التسيب في الفتاوى. وإذا كانت الفتوى رأيا في الدين كما سبق فإنها تندرج في إطار التسيب في إطلاق الآراء الدينية بعيدا عن المؤسسات الدينية الشرعية، ومن ثم لا يجوز لنا التلاعب بالألفاظ وإخراج الأمور عن مضامينها بتغيير الأسماء.
إن مبرر وجود الفاعل السياسي بشكل عام هو العمل على نقل برنامجه إلى حيز التنفيذ؛ فرجل السياسة ليس هو المثقف، الثاني شخص يعبر عن رأيه بأسلوب نظري، أما الأول فيسعى إلى تحويل النظرية إلى سلوك سياسي. وعندما يتبنى الفاعل السياسي في المغرب رأيا في الدين ويضعه في برنامجه فهذا يعني أنه يعمل على تحويله إلى قانون عندما يتسلم الحكم، أو يريد إقناع الدولة بتحويله إلى قانون. وضمن هذا التحليل، فإن رأي الحزب في الشأن الديني أكثر أهمية من رأي غيره فيه، لأن رأي الحزب مرشح ليصبح إجراءً عمليا أو قانونا، فنصبح أمام شيء أخطر من الفتوى، لأن الفتوى رأي في الدين على غير وجه الإلزام، أما الرأي الذي يصدره الحزب فيظل مرشحا لكي يتحول إلى فتوى على وجه الإلزام، من خلال التشريع.
إن تزايد الجدل حول الدين والمحاولات المتكررة لاختراق البنية الدينية للدولة والمجتمع أصبح يهدد الاستقرار الديني للمغرب، وبزعزعة الثقة في الثوابت الدينية للمملكة؛ لأن تكرار المساس بهذه الثوابت باستمرار يسحب ثقة المغاربة فيها، إذ ليس من طبيعة الثوابت إن كانت متعارفا عليها بين الجميع أن تتعرض في كل مرة للضرب مهما كانت الدعاوى والمبررات، ومهما اكتست عبارات متغيره كالفتوى أو الرأي. وقد يزداد الأمر سوءا عندما يرى المواطنون أن الطبقة السياسية التي يعول عليها في حماية ثوابت الدولة هي أول من يستهدفها.
لن نخفي رأينا في أن هناك من يسعى إلى النيل من مؤسسة إمارة المؤمنين، وسبق لأحد السياسيين اليساريين المعروفين أن صرح قبل أكثر من عشر سنوات بأنه يجب الحد من صلاحيات إمارة المؤمنين، بدعوى أنها حليف استراتيجي للإسلاميين؛ وهو كلام سخيف لا يفهم البنية الدينية للدولة المغربية تاريخيا، ولا يفهم أن إمارة المؤمنين عبر التاريخ كانت تخدمها مؤسسة العلماء لا هي التي كانت تخدم مؤسسة العلماء، لأنها منتمية دينيا لا سياسيا. وما نراه اليوم من حالات الانزلاق والتسيب في الآراء الدينية والفوضى في الكلام في الدين يؤكد من جهة رغبة بعض الفاعلين السياسيين في إحداث اختراق لبنية الدولة الدينية، ويؤكد من جهة ثانية الحاجة إلى مؤسسة إمارة المؤمنين لتحصين الجبهة الدينية وعزل الدين الذي هو دين الجماعة عن المراشقات السياسية. والأمر الأكثر مدعاة للأسى هو أن بعض الفاعلين السياسيين أصبح يتعامل مع مؤسسة إمارة المؤمنين كسلطة رمزية للتوظيف من أجل تصفية الحسابات السياسية مع الخصوم، وتلك استراتيجية هدفها نقل تلك المؤسسة من الانتماء الديني المحايد الذي يظلل الجماعة كافة إلى الانتماء السياسي الذي يجعلها طرفا في الصراع السياسي.
المصدر: وكالات