نبهت أطروحة للدكتوراه إلى أن البرلمان، رغم “الزخم الذي رافق دستور 2011، والصلاحيات الواسعة التي منحت له، وجعله سلطة قائمة الذات، إلا أن الممارسة كشفت أنه لم يستطع أن يتغلب على سطوة الحكومة ويثبت ذاته كسلطة موازية للسلطة التنفيذية”، بل استمرت “فكرة عقلنة العمل البرلماني” التي “جعلتنا أمام مؤسسة تابعة، وعطلت إمكانية بناء مؤسسي يهدف إلى خلق نوع من التوازن بين السلط”.
جاء هذا في مناقشة الباحث والزميل الصحافي محمد بلقاسم بحثه الذي نال به شهادة الدكتوراه تحت إشراف عبد الرحيم منار السليمي، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال بالرباط، حيث سجل “سطوة نموذج للأعيان المحليين متعددي المهام التمثيلية” التي “تجعل من استثمار غالبية البرلمانيين في العمل التشريعي والرقابي وتقييم السياسات العمومية والدبلوماسية البرلمانية بمنسوب ضعيف يزيد من تعميق هشاشته متغيّرا التكوين الأكاديمي والتنشئة السياسة”.
ويرى البحث أن “تحكم الأغلبية في البرلمان يقلص دور البرلماني في مجال التشريع”، وأن “التزكية السياسية تجعل البرلماني تابعا وغير منتج، ويهمه الحصول على الصفة في الكثير من الأحيان”؛ كما أن هذه المؤسسة “لم تستطع الخروج عن منطق التبعية للحكومة في ما يخص طبيعة جدول أعمالها أو النقاشات التي شهدها، حيث حضر النواب كعنصر مكمل للسلطة التنفيذية وليس سلطة مستقلة”.
وحول “السعي نحو المناصفة الذي رفعه الدستور”، يرد في البحث أن ذلك لم ينعكس في الولاية العاشرة على “مخرجات الزيادة العددية للنساء المنتخبات في مجلس النواب عن طريق اللائحة الوطنية، لأنها لم تقد إلى تمكين سياسي حقيقي، بقدر ما قادت إلى إدخال نهج جديد يعيق إلى حد كبير الترشح والفوز خارج اللائحة الوطنية المخصصة للنساء”، وبالتالي تحول نظام “الكوطا” في الكثير من الدورات الانتخابية “من آلية للتمكين السياسي والنهوض بالتمثيلية النسائية إلى آلية لإعادة الإنتاج الاجتماعي وأداة لخدمة وتعزيز سياسات المحسوبية والريع الحزبي”.
وخلص بلقاسم إلى أن التمثيلية السياسية للنخب النيابية خلال الولاية التشريعية العاشرة كانت لها “خصائص مشابهة لتركيبتها في المراحل النيابية السابقة، حيث مالت في غالبية تركيبتها الاجتماعية للنخب الاقتصادية (فئة رجال الأعمال) ذات التوجه الرأسمالي الليبرالي، والمنخرطة في المشهد السياسي أساسا من أجل الدفاع عن مصالحها، بغض النظر عن اختلافات هذه الفئة في المرجعية السياسية والتراكم الحزبي”.
وأضاف البحث ذاته: “فئة رجال الأعمال تواجدت بنسب متفاوتة في حزبي الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار، كما تصدرت فئة الموظفين ورجال التعليم والأساتذة الجامعيين قائمة الفئات في تشكيلة النخب البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، فيما احتلت فئة ‘الأعمال الحرة’ المرتبة الأولى بما مجموعه 108 نواب؛ ووصل الموظفون إلى 69 برلمانيا. لكن المثير هو وجود 4 نواب كانوا عاطلين قبل ولوجهم البرلمان، إذ تم تصنيفهم في خانة بدون مهنة. وتعليميا فإن 100 نائب برلماني لا يتوفرون على الباكالوريا، و5 نواب من أصل 395 لم يتلقوا أي تعليم”.
ولاحظ المصدر ذاته خلال انتخابات 2016 “إعادة ترتيب حضور الانتماءات المهنية لدى البرلمانيين لفائدة فئات سوسومهنية جديدة، وخاصة رجال الأعمال الذين احتلوا (…) صدارة التمثيل بـ 24 في المائة على حساب فئات أخرى ظلت إلى وقت قريب تتصدر القائمة، وخاصة رجال التعليم وفئة الموظفين”؛ كما ارتفعت، وفقه، المستويات التعليمية “بعدما أصبح ثلثا أعضاء مجلس النواب تقريبا يتوفرون على شهادة الباكالوريا، وتقلص بشكل كبير عدد النواب الذين لم يجتازوا الابتدائي”.
وذكر الباحث أن “البرلمان المغربي لا يتوفر على أي استقلالية مالية، إذ تعتبر في هذا الصدد الإدارة البرلمانية مثل باقي الإدارات العمومية؛ فمنذ إحداث أول برلمان في المغرب سنة 1963 لم يعترف القضاء الدستوري بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي للبرلمان، حيث ظل خاضعا في تدبيره المالي والإداري لسلطة الحكومة”.
ونبه المصدر ذاته إلى وجود خصاص على مستوى عدد الموظفين بالبرلمان، “حيث تظهر الإحصائيات توفر البرلمان بمجلسيه على حوالي 600 موظف رسمي، أي تقريبا بمعدل موظف لكل برلماني، وهو رقم ضعيف مقارنة بما هو موجود في عدد من التجارب المقارنة، خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن أغلبهم من الأعوان، وأن النسبة العالية منهم تعمل في المصالح الإدارية والمالية، بينما يقل عددهم في اللجان، وهي التي تمثل العمود الفقري للعمل البرلماني”.
ويرى صاحب البحث أن هذا مرتبط “بعدد من العوامل، منها: عدم امتلاك البرلمان القرار على مستوى عملية التوظيف، التي تبقى خاضعة لموافقة وزارة المالية، وخضوع الكثير من التوظيفات داخله لاعتبارات تتعلق بالانتماء السياسي أو العائلي عوضا عن المعايير القانونية والفنية والعملية والخبرة، علاوة على عدم ملاءمة المسار المعرفي لمعظم الموظفين مع ‘بروفايل’ الوظائف التي تحتاجها المؤسسة البرلمانية”.
وفي ما يتعلق بالهيكل التنظيمي للمجلسين، رصد البحث “بعضا من الخلط وعدم الانسجام”، مثل: “الخلط القائم على مستوى الهيكل التنظيمي لمجلسي البرلمان بين اختصاصين هامين هما التشريع والمراقبة، اللذين تضطلع بهما مديرية واحدة، مع أن التمايز الموجود بينهما يتطلب وجود خبرات وكفاءات مختلفة، ويفرض بالتالي وجود مديرية خاصة بكل وظيفة لها الخبرات والكفاءات الخاصة بها”.
كما سجل البحث افتقاد البرلمان إلى “مصالح تضطلع بتأمين العلاقة مع المواطنين وهيئات المجتمع المدني، ولاسيما في ظل الأهمية التي أخذ يحظى بها هذا الجانب المرتبط بالديمقراطية التشاركية في العديد من برلمانات العالم، في ظل إعطاء دستور 2011 الإمكانية للمواطنين لتقديم ملتمسات للتشريع، وإن كان البرلمان، وخاصة مجلس المستشارين، انتبه في الفترة الأخيرة لهذه المسألة عندما أقدم على إحداث منصب مستشار عام مكلف بالمجتمع المدني والهيئات النقابية للقيام بهذه المهمة، لكن دون أن يتم النص عليه في المنظم الإداري الخاص بالمجلس”.
كما أن هناك “تداخلا في المهام والاختصاصات بين الهياكل الإدارية المختلفة لمجلسي البرلمان، وخاصة على مستوى مجلس المستشارين”، وفق المصدر ذاته، وقدم مثالا بـ”المهام المتعلقة بالدراسات والبحث” التي “تبدو موزعة بين وحدات إدارية متعددة داخل المجلس الواحد، فقد نجدها ضمن اختصاصات مديرية التشريع والمراقبة البرلمانية، ومديرية الإستراتيجية والأنظمة القانونية؛ علاوة على أن هناك مركزا خاصا بالبحوث والدراسات يفترض فيه أنه وجد أصلا للقيام بهذه المهمة”.
وانطلق بحث “البرلمان المغربي ما بعد دستور 2011 دراسة في السياق السياسي والسلطات والبروفايلات” من استيعاب لـ”دور المؤسسة البرلمانية في الديمقراطية، باعتبارها السلطة القادرة على الحد من السلطة التنفيذية، وبالتالي خلق التوازن بين السلطتين في النظام السياسي”، ثم من اعتبار ذاتي متمثل في تتبع الصحافي محمد بلقاسم لعمل المؤسسة البرلمانية لقرابة عقد ونصف من الزمن.
أما اختيار الولاية العاشرة فإن مرده إلى “بحث البرلمان بعد فترة مقدرة من الإصلاح الدستوري لسنة 2011، الذي وصل لأزيد من خمس سنوات”، وهي فترة “كافية للدراسة بعيدا عن ضغط الشارع، الذي ارتبط بالاحتجاجات التي شهدها المغرب ومعه المنطقة”، علما أن “الولاية العاشرة” تميزت “بمرور مسافة كافية على لحظة الانتظارات الكبرى التي حملها الزمن الاحتجاجي في علاقته بصلاحيات البرلمان، وبغلق لحظة الولاية التاسعة التي كانت في الواقع نوعا من الاختبار الحاد لقدرة الفاعلين على تفعيل كل السلط التي منحها الدستور للمؤسسة البرلمانية باعتبارها أساسا ولاية تأسيسية شهدت في العمق نوعا من كتابة وإعادة كتابة الميثاق التأسيسي لـ2011، من خلال الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان والقوانين التنظيمية المهيكلة للعلاقة بين البرلمان والحكومة”.
وسعى هذا البحث إلى فهم التحول “الطبقي” لنخب البرلمان، نظرا لـ”ما تكتسيه المؤسسة البرلمانية من أهمية على مستوى البحث العلمي باعتبارها أحد أبرز المؤسسات في مراقبة تدبير الشأن العام، بالنظر إلى الآليات الدستورية والقانونية التي تتمتع بها”، ولأن “السعي إلى فهم منطق اشتغال الدولة يستدعي بالضرورة تحليل النخب البرلمانية، ونمط إنتاجها، وتداولها، والمنطق الاجتماعي والسياسي لسلوكها”.
المصدر: وكالات