توالت التكبيرات مع توالي دخول شهداء المقاومة وجرحاها إلى مسجد برّيمة بمكناس، القريب من ساحة “الهديم”، قبل 85 سنة؛ تاريخ محطّة من محطات المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي الفرنسي في مغرب وقع في شباك الاستعمار.
هذا المشهد الذي حملت فيه الأكتافُ المقاومينَ، بين قتيل وجريح، في قلب موجة من ترديد “الله أكبر” وسيل من دماء المنافحة عن كرامة الأرض وناسها، شهد عليه المقاوم الراحل أحمد الجبلي، ابن مدينة سيدي يحيى، الذي تزامن حضوره إلى مكناسَةَ ويوم “معركة بوفكران” مطلع شتنبر من سنة 1937.
معركة الشرف هذه قامت بعد “سرقة قانونية” لمياه ساكنة مدينة مكناس من طرف المعمّرين الفرنسيين، حيث استولوا على مياه “وادي بوفكران” عقب قرار وزيري في فبراير من سنة 1937، وقّعه المقيم العام الفرنسي والصدر الأعظم المغربي.
وقبل المعركة، رفع ممثّلو ساكنة مكناس عريضة إلى السلطان محمد الخامس استنكارا واحتجاجا على “الحالة السيئة التي آلت إليها المدينة وما يحيط بها من حقول وأجنة وبساتين بسبب انحباس ماء وادي أبي فكران”، تقول العريضة، مضيفة: “إننا نرى يا صاحب الجلالة، والأسف يملأ نفوسنا، أن أجنتنا وحقولنا أوشكت أن يجتاحها الجفاف ويتلف زرعها وثمارها ويميت أشجارها، في حين أن مزارع جيراننا المعمرين تتمتع كامل التمتع بالسقي من العيون الثرية، وجداول هذا الوادي المنهمرة”.
وتابعت: “(…) لنعلن أن هذا الماء هو ضروري لحياتنا وحياة مدينتنا، وأن نفوسنا لا تسمح بالتنازل ولو عن شيء تافه منه، إذ به قوام حياتنا وهو مادة طهارتنا في مساجدنا ومعاهدنا وحمّاماتنا”.
وقبل المعركة، اجتمعت نخبة من الساكنة، هي “لجنة الدفاع عن ماء أبي فكران”، وهي خطوات متتالية لم تقبل “الأمر الواقع” تخوّفت منها الإدارة الاستعمارية، خاصة والساكنة متمسكة بحقها المثبت بالوثائق التاريخية منذ كانت المدينة عاصمة للبلاد.
ومع توالي التجييش، استدعت اللجنةَ الإدارةُ الاستعمارية لتفاوضها، مقترحة تنازلا من المعمرين عن بعض أجزاء الماء، في ظل رفض باتٍّ من الأولى “ولو عن قطرة واحدة من الماء”.
هكذا، اعتقل الاحتلال الأجنبيّ مكناسيّينَ، من بينهم أعضاء في اللجنة المحلية، بعد عسكرة المدينة. وهي خطوة ما كان لها إلا أن تحرك المواطنين الذين خرجت مسيرتهم الاحتجاجية من “الجامع الكبير”، مطالبة بسراح المعتقلين والماء، محذرة من أن الثمن سيكون من الأرواح. وكذلك كان.
في مطلع شهر شتنبر قبل 85 سنة، أطلقت قوات الاحتلال الأجنبي على المتظاهرين المغاربة الرصاص الحي، ووجدت في حجارة الساكنة وعصيها وفؤوسها الجواب.
جوابٌ دوّن في تاريخ المقاومة المغربية كمحطة من محطات الانتفاض الشعبي ضد الاحتلال وموالِيه، كان ثمنها أرواح المغاربة.
وتحضر في سياق إعادة تأهيل المدينة التاريخية، الذي تجري أشغاله حاليا، مطالب من الساكنة بصيانة الذاكرة التاريخية بنصب تذكاري في ساحة الهديم، يصون الذاكرة التاريخية للمدينة والبلاد، بصيغة متطورة تستوفي أهمية هذه المحطة من محطات المقاومة، التي كان لها أثرها في تطوّر الوعي الشعبي الوطنيّ ضد الاحتلال والمنتفعين من العلاقة به.
وحضر نصبان في محطات سابقة، لم تغب عنهما أخطاء لغوية، مما يجدد مطالب إقامة نصب تذكاري “يليق بمستوى الحدث التاريخي”.
نائب رئيس اللجنة المغربية للمجلس العالمي للمباني والمواقع (إيكوموس)، علي زيان، قال إن ساحة الهديم هي “ساحة الشرف، التي شهدت على ذكرى وطنية كبيرة، وهي من محطات الكفاح الوطني، فهي أول تمرد مدني بعد انتشاء فرنسا بإخماد كل الثورات في المغرب”.
وتابع زيان في تصريح لـهسبريس: “هو رد فعل على محاولة الاستعمار الفرنسي استغلال الموارد المائية لمدينة مكناس، وهي موارد تاريخية بظهائر شريفة ومن الأوقاف التي أوقفها السلطان مولاي إسماعيل على مدينة مكناس. وتحجّج المكناسيون بالمستندات والظهائر الشريفة وتاريخ تدبير الماء، لكن فرنسا استمرت في تمرير الماء للمدينة الحديثة، وللضيعات، بقنوات وسدود”.
وأضاف المتحدث: “احتج المكناسيون سلميا، وكونوا لجنة، وأرسلوا عرائض إلى السلطان والمقيم العام، ومسؤولين آخرين، ورغم ذلك استمر الفرنسيون في التصرف بطريقة ضد مصالح المدينة، وفي شتنبر، الذي هو آخر فصل الصيف، وقع احتقان كبير مع توقف وصول الماء. وكانت هذه سياسة استعمارية في مجموعة من المدن، لكن لم تستسغ ساكنة مكناس بالذات الأمر”.
كما ذكر زيان أن التخطيط لرد الفعل كان “بحضور الحركة الوطنية، الحركة القومية والحزب الوطني…”، وزاد: “خرجوا بعريضة فيها ثلاثة أمتار، وقعها 1486 شخصا، ثم ذهبت لجنة لتستقصي العيون في منابعها، وبعد عودتها، استدعاها رئيس الأركان في مكناس، من أجل مقاضاتها، فنظمت مظاهرات، وأعلنت مظاهرة في فاتح شتنبر، فجرى استدعاء خمسة أشخاص”.
واسترسل المصرح ذاته: “هنا قامت المظاهرات المحتجة، وخرجت من المسجد الأعظم إلى ساحة الهديم، فضُرب المحتجون بالرصاص. وقتل حامل لائحة ‘الماء ماؤنا تفديه أرواحنا’، وتوالى الشهداء. وشاركت في هذه المقاومة حتى النساء، حيث أردت امرأة اسمها رقية جنديا قتيلا، وشارك كل أطياف المكناسيين، من فلاحين وعلماء وشيوخ وصغار وكبار. كما أخذ المتظاهرون بعض الجثث والجرحى، ودفنوا الشهداء في مقبرة باب البرادعيين التي سميت بعد ذلك ‘مقبرة الشهداء’”.
وبما أن مكناس تخضع حاليا لبرنامج تثمين المدينة العتيقة، الذي من بين أطواره تهيئة ساحة الهديم، سجل زيان أن هذه الساحة “هي وجه العاصمة الإسماعيلية، ولها رمزية كبيرة”، وزاد: “في التأثيث الحضري تكون النصب التذكارية وسيلة للتأريخ لعدد من المحطات التاريخية، ومنها معركة ماء بوفكران، في فاتح وثاني شتنبر 1937″، مردفا: “كان نُصُبٌ في الثمانينيات فيه خطأ، وتلاه آخر قدم المعلومات في قالب مهين. ومن بين سبل إعادة توظيف الساحة وتنشيطها نصب تذكاري جميل، بطريقة حديثة، يمكن أن يكون متعدد الأبعاد، ويصاحبه تنشيط رقمي بالأضواء، وعروض رقمية، من أجل ربط الماضي بالحاضر”.
المصدر: وكالات