أصدرت المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية “ريمالد”، في إطار سلسلة “مواضيع الساعة” عدد 123، مؤلفا جماعيا باللغتين العربية والفرنسية، في موضوع: “الجهوية المتقدمة ورهانات التنمية الترابية المندمجة والمستدامة”، علما أنها سبق أن أصدرت العديد من المؤلفات والمقالات في السياق نفسه.
وتعتبر الجهة في النسقين الدستوري والإداري وحدة ترابية مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية، أما الجهوية فتشكل في فلسفتها ومضامينها وأهدافها سياسة عمومية ترابية جديدة، تجد مرجعياتها ومرتكزاتها في الخطب الملكية السامية في التصور العام للجنة الاستشارية للجهوية، وفي المستجدات الدستورية والقوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية.
كما تشكل الجهوية المتقدمة، التي توصف كذلك بأنها وظيفية، ورشا مهيكلا للسياسات العمومية واختياراً إستراتيجياً من شأنه أن يؤدي إلى التغيير المؤسساتي على مستوى الدولة، التي أضحت تكتسي مفهوم الدولة الترابية بوصفها تُعرف اليوم بمجموعة من المحددات، من بينها المراقبة الإدارية عوض الوصاية، ومساعدة الولاة والعمال رؤساء المجالس الجهوية في تنفيذ المخططات وبرامج التنمية الجهوية، إلى جانب اعتماد اللاتمركز الإداري الذي يعتبر تنظيما إداريا مواكبا للتنظيم الترابي اللامركزي القائم على الجهوية المتقدمة وأداة رئيسية لتفعيل السياسة العامة للدولة على المستوى الترابي، قوامه نقل السلط والوسائل وتخويل الاعتمادات لفائدة المصالح اللاممركزة من أجل تمكينها من القيام بالمهام المنوطة بها، واتخاذ المبادرة تحقيقا للفعالية والنجاعة.
ويهم التغيير المؤسساتي إلى جانب ذلك الجماعات الترابية بصفة عامة، والجهات بصفة خاصة، التي أصبحت بموجب الدستور والترسانة القانونية والتنظيمية فاعلا أساسيا ومحورا في مختلف الإستراتيجيات، التي تروم منحها الريادة في قيادة السياسات العمومية الترابية وفي تعميق الديمقراطية الانتدابية والتشاركية، إضافة إلى اعتماد مقاربة تنموية مندمجة ومستدامة مقرونة بقواعد الحكامة الترابية الجيدة، الرامية إلى جلب الاستثمار وإنعاش المقاولات والرفع من القدرات التدبيرية للجهات في مواجهة الرهانات الكثيرة التي يجب رفعها، لاسيما في ظل النموذج التنموي الجديد المنشود.
ويعتبر “السياسي” و”الاقتصادي” أمرين متلازمين يؤسسان لسياسة مجالية جديدة تجد مرجعياتها في الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك بمناسبة تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية في 3 يناير 2010، الذي يعتبر خارطة الطريق لإصلاح الجهوية، حيث رسم المعالم وحدد الأهداف التي تجب بلورتها في التصور العام من أجل:
«الارتقاء من جهوية ناشئة إلى جهوية متقدمة ذات جوهر ديمقراطي وبعد تنموي».
وجاء في التقرير الذي توصلت به هسبريس أن جميع التوصيات التي تقدمت بها اللجنة تم تكريسها في دستور 2011 في بابه التاسع، الذي أكد في أكثر من فصل على تعميق مسلسل اللامركزية والجهوية، حيث نجد هذه الدلالة القوية في الباب الأول من الدستور الذي نص على أن “التنظيم الترابي للمملكة لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة”.
وأضاف المصدر ذاته أن التراب الجهوي، تماشيا مع المقتضيات الدستورية وفحوى القوانين التنظيمية، أصبح أداة لتفعيل التغيير المؤسساتي لعدة اعتبارات، أولها أن المؤسسة الجهوية أضحت إطارا لخلق علاقة وظيفية جديدة من نوعها بين الدولة والجهات والجماعات الترابية الأخرى؛ وفضاء لتحقيق التوازن المجالي وفق إستراتيجية اقتصادية مندمجة ومتكاملة؛ كما أضحت بوابة لإعادة النظر في الوظائف والاختصاصات الموكولة للجهات والجماعات الترابية الأخرى، ومنظورا جديداً لتفعيل الآليات الناجعة للتضامن والتكامل والتعاقد بين الدولة والجهات في إطار وحدة الدولة والأمة والتراب.
ويستنتج من عبارة الجماعات الترابية أن لكل تراب تخصص وظيفي يعد مكملا للمستويات الثلاثة للهندسة الترابية الجديدة، فالجهة مطالبة بوضع برنامج إستراتيجي أفقي تنموي، والعمالة والإقليم يعتبران الفضاء الأنسب لتفعيل تعاضد الوسائل والمشاريع ذات الطابع الاجتماعي؛ وأخيرا فالجماعات تعد تراب المهام وإدارة القرب بالنسبة للمستفيدين من خدمات المرافق العمومية المحلية.
في هذا السياق، يورد المصدر ذاته، تعتبر الحكامة الترابية هدفا لمأسسة الجهوية المتقدمة، إذ نجد تأكيدا على ذلك في الخطاب الملكي لـ 3 يناير 2010: “بادرنا إلى إطلاق ورش الجهوية المتقدمة، توطيدا للحكامة الترابية الجيدة والتنمية المندمجة”.
وشدد التقرير على أن دستور 2011 والقوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية كرسا مفهوم الحكامة وقواعدها لكن دون تحديد معناها؛ فرغم الجدل والنقاش الفقهيين القائمين بشأن ملامسة مضمونها وأهدافها والغايات المتوخاة من وراء توظيفها أو تسويقها سياسيا أو إداريا فالحكامة الترابية تعرَّف بأنها تحمل للشؤون الجهوية بكل مسؤولية من طرف المسيرين في إطار تشاوري وتشاركي وتضامني، مع السهر على نجاعة استعمال الموارد المالية خدمة للصالح العام، دون إغفال ربط المسؤولية بالمحاسبة.
كما تُستشف من هذا التعريف، المنبثق من التقارير الموضوعاتية للجنة الاستشارية للجهوية، المبادئ المرجعية المعرِّفة للحكامة الترابية الجيدة المتمثلة في التمثيلية والمشاركة، وكذا التشاور والمسؤولية والتضامن والتعاقـد.
وشدد المصدر نفسه على أن نجاح ورش الجهوية المتقدمة، الذي انطلق سنة 2015، لا يتوقف فقط على الترسانة القانونية والتنظيمية، بل على فعالية الإجراءات المصاحبة الكفيلة بضمان الإصلاح العميق للدولة، منها إرساء تمفصل متجانس بين آليات اللامركزية واللاتمركز على مستوى المجال الترابي؛ وتفعيل الاختصاصات الموكولة للجهات وفق مقاربة متدرِّجة تراعي خصوصيات كل جهة، وانتهاج واسع للاتمركز الإداري وفق أهداف الميثاق الوطني للاتمركز الإداري، واعتماد التكوين المستمر للمنتخبين؛ لأن استقراء النصوص القانونية والتنظيمية يتطلب رصيدا معرفيا ودراية واسعة بمناهج التدبير وفق المقاربات الجديدة الخاصة بالتدبير العمومي الجيد,
علاوة على ذلك فإن الآليات والأدوات المتعلقة ببرامج التنمية والتصاميم الجهوية لإعداد التراب تستوجب واقعية أكثر في إعدادها ونجاعة أكبر في تنفيذها، والتوزيع الجديد للاختصاصات بين الدولة والجهات، يجب أن يراعي الالتقائية والانسجام في مجال التوطين الترابي للسياسات العمومية، وتفعيل المبادئ الدستورية والقانونية المؤطرة للجهوية بشكل سليم، التي بدون تنزيلها على أرض الواقع تبقى تجربة الجهوية المتقدمة جد محتشمة.
وحاولت المجلة من خلال هذا العدد بسط بعض الأفكار المحورية للمساهمات العلمية التي يتضمنها هذا المرجع العلمي الشامل من حيث تنوع مقالاته وتحاليله الهادفة؛ كما تهدف من نشر هذا المؤلف إلى إغناء النقاش الفقهي وإثراء المعرفة في موضوع شائك ومعقد، بإشكالياته وبمعادلاته التي تجمع بين ما هو دستوري وإداري، من جهة، وبين ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي، من جهة أخرى. كما تطمح المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية إلى أن يحقق هذا الإصدار الجديد الأهداف النبيلة التي تطمح إليها.
المصدر: وكالات