تابعنا في الحلقة الأولى ضمن هذا السفر التاريخي الذي تكلّف به الأرشيفيست المكي أكنوز، مسار محمد رويشة في لحظته الحاسمة، بصعوده على خشبة مسرح محمد الخامس يوم فاتح نونبر سنة 1980، بفضل جهود محمد الوافي، رئيس جمعية “نادي محبي الأغنية الأمازيغية والتراث الشعبي”، الذي سهّل هذه العملية، وكان شاهداً بدوره على الطريقة الخاصة التي احتفى بها الجمهور الحاضر بـ “فريد الأطلس”.
في هذه الحلقة الثانية، نستأنف التعرف على حكاية “الليلة الفريدة” التي كتب رويشة بأوتاره تفاصيلها، بعدما طالبه الجمهور بالغناء بالعربية، فاستجاب “عراب الأغنية الأمازيغية في المغرب”. كما يقربنا أكنوز من الصدى المثير للاهتمام الذي حدث على مستوى تعاطي الصحافة المغربية مع هذه الليلة، إلى درجة وصفتها إحدى الصحف التاريخية الفرنكوفونية بأنها “قنبلة فنية”.
رويشة والعربية
في اللية التاريخية، التي جرت بالمسرح سالف الذكر، حين انتهى رويشة من إلقاء “ماني العهد ماني العزازيث”، سمع “صوتا يقول من بعيد، من الصعب معرفة مصدره بحكم أن الأضواء كانت مسلطة عليه: [العربية والعربية أرويشة]، وهذا ما جعل رويشة ينظر إلى مصدر الصوت، وبصوته الدافئ قال: [مرحبا مرحبا]”، وفق أكنوز.
وأورد الكاتب قائلاً: “استجابة لذلك، اختار أغنية [قل لي علاش نخمم]، وهي من كلمات الزجال عبد العزيز مزيان، المولود عام 1958 بخنيفرة.
وبالمناسبة، فهو من الشعراء الذين زودوا محمد رويشة في بداية مشواره الفني بقصائده وكلماته، ومن أبرزها [قل علاش نخمم]، المذكورة، [يالي راك وحداني]، [مالك هكذا الأيام]، و[كان مكتوب عليا نصبر]، [كنا خاوا اولخاوا صبحت عداوا]، [هادي ليلة اوديك ليلة]، [واش المحبوب كيلوموه الناس]، [كولو لممتي تجيني]”.
وتابع أكنوز: “رويشة استطاع أن يسافر بجمهوره في عوالم الأغنية الشعبية التي لا تبتعد عن الاستجابة للأذواق الموسيقية الرفيعة، ليرسو مرة أخرى في زاوية فنية عنوانها [قل لي علاش نخمم]، وهي بلا خلاف الأغنية التي فجرت قوة من الهتافات. وهكذا فبمجرد انتقاله إلى المقطع المعروف [وعقلي تايه يحلم] اهتزت أركان المسرح بالهتافات، فارتفعت الأصوات، وبدأ رفع اسم رويشة، بهذا الشكل: [ارويشة.. ارويشة.. ارويشة]”.
وهكذا، يقول الكاتب، استمر الإبداع الموسيقي، وعندما يصل رويشة إلى مقطع [فكل دقيقة يتألم وقلبي يرفد الهم] يخفض صوته وهو في حالة انكسار عاطفي. فأداؤه وقوة إبداعاته المختلفة يؤكدان أنه مدرسة تبتكر أساليب تجديدية في خدمة تراثنا وموسيقانا، وقد استطاع أن يخلق لنفسه اتجاها خاصا في الأداء، سواء فِي اختيار الكلمات أو الألحان، حيث لم يقلد من سبقوه أو عاصروه. وهذا من الأسرار التي جعلت روائعه تخلق أمامنا تحفا فنية خالدة”.
بأدائه الذكي، استطاع أن “يطوع أعقد المعاني، وأصعب الكلمات، لتصبح قابلة للغناء والحفظ والترديد، فألحانه تجد صداها لدى المستمع فور سماعها، فتتفجر منها الرقصات، ومن المؤكد أن صانعيها، بالإضافة إلى الرائد محمد رويشة، كل من حسن الناصري الملقب بـ[ويقفي]، ومحمد أوطلحة، وعلي ودا. وقد جاء التلاحم بين الجميع عميقا، إن صح هذا التوصيف”، بتعبير صاحب الورقة.
وأضاف شارحا: “الانسجام تحقق بشكل متناسق في كل الأغاني التي لقيت قبولا لدى الجمهور، ومن أبرزها [قولي علاش نخمم]، [ثِيوِيرْگَا دَثْسْحِيلِّلثْ الرَٰعْبْ أَيْگَا اوْحْبِيبْ إِنْوْ إِدَّ يْتُوييْ]، [كنا خاوا والخاوا صبحت عداوا]، [علاش الفراق علاش]، [احمام امليل خف أوگاذير]. وقد استطاعوا تشكيل كورال حيّ دون استثناء، مقدمين معه أجمل لوحة حب متبادلة بين فنان وجمهوره، تاركين في ذاكرتهم ليلة استثنائية ستبقى عالقة في ذاكرة كل من حضرها في المسرح.
“قنبلة في الإعلام”
لم تكن نهاية الأمسية الفنية الكبرى التي احتضنها المسرح بداية الثمانينات شيئا مقبولاً لدى الحاضرين الذين تمسكوا باستمرار السهرة ضدا على منطق الواقع الذي يقضي بانتهائها، بعد أن استمرت لساعات، فالجمهور أصر على استمرار إبداعات رائد الأغنية الناطقة بـ”تاتزبغت”، ما جعل الجماهير ترفض المغادرة بهتافاتها التلقائية؛ لكن نهاية السهرة في الحقيقة مرتبطة بعودة رويشة مرة أخرى إلى حالته الطبيعية المألوفة وشخصيته البسيطة.
يواصل الكاتب سبر أغوار تلك الليلة، مشيرا إلى أن “هذه السهرة التاريخية جعلت رويشة في قائمة أنجح الفنانين في الأطلس المتوسط، لذا قالت الصحافة في خرجاتها الكثير عما شهده مسرح محمد الخامس، فجريدة L’opinion، الصادرة يوم الإثنين 3 نونبر 1980 في عددها 300، صرحت بأن الفنان الأمازيغي محمد رويشة أحدث قنبلة بمسرح محمد الخامس، حيث سحر العقول برقة غنائه، ونعومة صوته وأنغام أوتاره العذبة”.
أما جريدة “العالم”، عدد 290، الصادرة يوم الثلاثاء 11 نونبر عام 1980، فقد لقبت رويشة بـ”فريد الأطلس” بحكم قدرته الفنية على اختراق القلوب والعقول معا، بكلمات أغانيه المتنوعة، الممزوجة بأريج عطر نسماته الأطلسية.
واللافت، وفق أكنوز، أن “هذه السهرة لم يشهد لها مثيل بمسرح محمد الخامس، فلم يتصور الكثير من المتتبعين لشؤون الفن والثقافة أن يكون الإقبال الشعبي على الأمسية بهذا الحجم، إلى درجة أنه لم يبق أي مقعد فارغا قبل بداية الفقرات الأولى من السهرة”.
عزيز السغروشني، مدير المسرح وقتذاك، قال: “حدثان لا يمكن لمسرح محمد الخامس أن ينساهما فبسببهما اهتزت أركانه، الحدث الأول جاء على إثر سهرة أم كلثوم التي نظمت يوم الأحد 3 مارس عام 1968 بمناسبة عيد العرش، أقامتها الحكومة المغربية على شرف الملك الحسن الثاني. أما الحدث الثاني فيتمثل في سهرة محمد رويشة التي عرفت نجاحاً كبيراً، والذي أكّد قوة حضوره، حيث جاء عشاقه من مختلف المدن المغربية”. وهذه الحقيقة تبرز التوهج الذي عرفه رويشة، وأوصله إلى القصر الملكي، كما سنتابع في الحلقة الثالثة.
المصدر: وكالات