قال الباحث السياسي المغربي محمد شقير إن “النزاع الجزائري المغربي يعتبر من أطول النزاعات التي عرفتها المنطقة الإفريقية أو العربية، إذ استغرق إلى حد الآن حوالي ستة عقود بشكل يذكر بحرب المائة عام التي كانت بين كل من إنجلترا وفرنسا، ما يستدعي التساؤل عن سبب طول مدة هذا النزاع”.
وحاول شقير، في مقال له بعنوان “شقير يقارب طول النزاع المغربي الجزائري بين الأصولية والانفصالية”، مقاربة الموضوع انطلاقا من محاور “تغليب الحس الأخلاقي في حماية المصالح العليا للدولة”، و”تغليب الحس السياسي في حماية المصالح العليا للدولة”، و”توظيف الورقة الأصولية لحماية المصالح العليا للدولة”، و”التلويح بالورقة القبايلية لحماية المصالح العليا للدولة”.
وختم الباحث السياسي مقاله بالتأكيد على أن “الوقت حان لجلوس الجزائر إلى طاولة المفاوضات مع المغرب باعتبارها الطرف الأساسي والوحيد في هذا النزاع الصحراوي المزمن، للبحث عن حل سياسي وواقعي بهذا الشأن، مقابل تنازل المغرب عن أي تحريك للملف القبايلي بالجارة الشرقية، والسياسة قبل كل شيء لعبة تفاوض وكسب أوراق”.
هذا نص المقال:
يعتبر النزاع الجزائري المغربي من أطول النزاعات التي عرفتها المنطقة الإفريقية أو العربية، إذ استغرق إلى حد الآن حوالي ستة عقود، بشكل يذكر بحرب المائة عام التي كانت بين كل من إنجلترا وفرنسا، ما يستدعي التساؤل عن سبب طول مدة هذا النزاع، فهل هذا يرجع فقط إلى تقارب القدرات العسكرية بين الدولتين؟ ما يجعل من الصعب تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة، ما عبر عنه الملك الراحل الحسن الثاني عندما شبه الحرب بين إيران والعراق كالحرب بين المغرب والجزائر، حيث من الصعب على أحدهما تحقيق انتصار عسكري حاسم ودائم، أم إلى تأثير القوى الإقليمية والدولية على مجريات أي حرب عسكرية بين الدولتين، ففرنسا لا ترغب في حرب بينهما حفاظا على مصالحها لتخوفها من أي تدخل أجنبي في منطقة نفوذها، في حين أن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على مصالحها البترولية مع الجزائر؛ فأي حرب طويلة ومدمرة بين الدولتين ستقوض التوازن في شمال إفريقيا، وستفسح المجال أمام تسرب عوامل الاستقرار في المنطقة، من تطرف وإرهاب وتهريب وغيره. أم إن طول فترة هذا النزاع ترجع بالأساس إلى عدم توظيف المغرب لأي أوراق سياسية للضغط على الطرف الجزائري؟.
تغليب الحس الأخلاقي في حماية المصالح العليا للدولة
سبق للسلطات الاستعمارية الفرنسية أن عرضت على الملك محمد الخامس سنة 1957 استعادة سيادة المغرب على المناطق التي يطالب بها مقابل شرطين أساسيين: تأسيس شركة فرنسية مغربية (المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية) لاستغلال الموارد المنجمية المكتشفة حديثا في هذه المنطقة الحدودية، ووقف دعم الثورة الجزائرية، ما كان يهم فرنسا بالدرجة الأولى للاستفراد بنشطاء وقادة هذه الثورة وقطع الإمدادات اللوجستيكية؛ فقد كانت فرنسا تريد من وراء مقترحها وقف دعم المغرب المستمر للثورة الجزائرية، إذ كان يستضيف قادة الثورة، وخاصة بمدينة وجدة شرق البلاد، كما كان يوفر إمدادات السلاح للمقاومين الجزائريين، وهو ما كان يقض مضجع سلطات الاحتلال الفرنسي. لكن الملك محمدا الخامس رفض هذا العرض الفرنسي، مستندا في ذلك إلى منطق أخلاقي بدل الاستناد إلى حسابات البرغماتية السياسية، إذ أكد أن المشكل الحدودي سيحل مع السلطات الجزائرية بعد استقلال الجزائر عن فرنسا.
ولتأكيد الأمر، وقع المغرب بتاريخ 6 يوليوز 1961 اتفاقا مع رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، يعترف بوجود مشكل حدودي بين البلدين، وينص على ضرورة بدء المفاوضات لحله بعد استقلال الجزائر. وبالتالي، قام الملك الحسن الثاني في إطار تقوية سلطته، في مواجهة مع معارضة سياسية داخلية كانت تنافسه على استكمال الوحدة الترابية، بزيارة إلى الجزائر يوم 13 مارس 1963، لتذكير الرئيس الجزائري أحمد بن بلة ببنود هذا الاتفاق، في وقت كان يواجه هذا الأخير بدوره الانتفاضة المعادية لجبهة التحرير الوطنية التي كان يتزعمها حسين آيت أحمد، خاصة في منطقة القبائل، ما جعل الرئيس يطلب من ملك المغرب تأجيل مناقشة الأمر إلى حين استكمال بناء مؤسسات الدولة الحديثة بالجزائر المستقلة.
تغليب الحس السياسي في حماية المصالح العليا للدولة
اندلعت أول حرب بين دولتي المغرب والجزائر، خاصة بعد التصعيد الذي قامت به سلطات الجزائر، إذ “لم يمر إلا يوم واحد على لقاء وزيري خارجية الدولتين بوجدة، وصدور بلاغ الوفاق، حتى عرفت الحدود بين البلدين هجوما عسكريا مباغتا قام به الجيش الجزائري على مركز «إيش» العسكري الواقع على بعد خمسين كيلومترا من شمال شرق مدينة فكيك بإقليم وجدة، وكانت تحرسه قوات مغربية لم تكن تتوفر إلا على سلاح خفيف، بينما كان المهاجِمون الجزائريون يشكلون قوات نظامية مجهزة بالأسلحة الثقيلة؛ في حين قام الطيران العسكري الجزائري بقنبلة منطقة «تيندرارة» التابعة لإقليم وجدة أيضا. بينما شنت عناصر من القوات الجزائرية يوم 8 أكتوبر 1963 هجومات عسكرية على منطقة حاسي بيضا، قتل فيه عشرة عناصر من الجيش المغربي الموجود بالمركز العسكري للبلدة. ولم تكتف السلطات الجزائرية بهذه الهجومات العسكرية، بل قررت في 15 أكتوبر 1963 التعبئة العامة لقدامى محاربي الجيش وجنود جيش التحرير الوطني، ما جعل السلطات المغربية تسارع إلى إرسال أكثر من وفد رسمي إلى الرئيس الجزائري بن بلة للاحتجاج على ذلك الهجوم المفاجئ، والبحث عن احتواء هذا الوضع، لكن بدون جدوى. وأمام هذه الهجومات، في 14 أكتوبر، تحركت القوات المسلحة الملكية بقيادة الجنرال إدريس بن عمر للتصدي للقوات الجزائرية والسيطرة على حاسي بيضا وتنجوب، وإجبار القوات الجزائرية على التراجع نحو طريق بشار-تندوف التي أصبحت سالكة أمام القوات المغربية. لكن الملك الحسن الثاني أمر قوات الجيش المغربي بالتراجع رغم انتصاره في الميدان، ما أغضب الجنرال إدريس بنعمر آنذاك، الذي نزع بزته العسكرية قائلا: “مولاي لا يقبل في المنطق الحربي والتقاليد العسكرية أن يعود جيش منتصر إلى منطلقاته الأولى كأنه جيش منهزم”.
توظيف الورقة الأصولية لحماية المصالح العليا للدولة
ساهمت الهزيمة العسكرية التي مني بها النظام الجزائري في حرب الرمال في تشكيل عقيدته العسكرية؛ فقد ولد الإحساس بـ”الحكرة” السياسية التي عبر عنها آنذاك الرئيس الراحل بن بلة (المروك حكرونا) لدى القيادة السياسية والعسكرية الجزائرية عقيدة عسكرية تقوم على اعتبار المغرب بمثابة العدو الرئيسي الذي ينبغي العمل على تحجيمه دبلوماسيا، والاستعداد لاحتوائه سياسيا، والتهييء له عسكريا. كما خلقت هذه الحرب، التي كانت أول مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، وانتهت بوساطة من منظمة الوحدة الإفريقية، من خلال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في 20 فبراير 1964 في مدينة باماكو، عاصمة مالي، توترا سياسيا مزمنا في العلاقات المغربية الجزائرية مازال متواصلا إلى حد الآن. وبالتالي فإذا كانت هذه الهزيمة العسكرية من بين العوامل التي حولت النظام الجزائري إلى نظام عسكري، بعدما سهلت عملية انقلاب بومدين على الرئيس بن بلة، الذي اتهم بالتقصير في إدارة هذا الصراع مع المغرب، فقد ساهمت في مساندة النظام الجزائري لبعض مكونات معارضة نظام الملك الراحل الحسن الثاني، وتسهيل اختراقها للحدود المغربية للقيام ببعض العمليات المسلحة، كانت آخرها عملية مولاي بوعزة في 1973، وعملية فندق أسني في 1994؛ وذلك ضمن مخطط لزعزعة الاستقرار داخل المملكة في انتظار عمليات عسكرية تمكنها من إلحاق هزيمة عسكرية بالقوات المسلحة الملكية، انتقاما لهزيمة الجيش الجزائري في حرب الرمال.
لكن بالمقابل، لم يهتم النظام بالمغرب بإمكانية توظيف ورقة المعارضة الجزائرية في مواجهته مع النظام الجزائري؛ فرغم القبول بإقامة بعض قياديي جبهة التحرير التاريخيين كبوضياف بالمغرب على سبيل المثال، فقد تفادى الملك الحسن الثاني تقديم أي دعم للمعارضة الإسلامية بالجزائر خلال صراعها الدموي مع النظام العسكري بالجزائر، خاصة أن بعض مكونات هذه المعارضة، كجبهة الإنقاذ الإسلامي، كان لها موقف مخالف للنظام الجزائري بشأن الصحراء.
وخلال أشغال القمة الثانية لاتحاد المغرب العربي التي احتضنتها الجزائر في يوليوز من سنة 1990، استغل الملك الراحل الحسن الثاني فرصة تواجده في الجزائر، وناقش مع عباس مدني قضية الصحراء، واتحاد المغرب العربي، فحصل تقارب كبير بين وجهتي نظرهما بهذا الشأن، بل أكدت قيادات الجبهة بعد ذلك حصول تطابق في وجهات النظر بين الطرفين، إلى الدرجة التي تم اتهمها جزائريا في ما بعد بالعمالة للمغرب. ورغم ذلك، فأثناء الفوز الانتخابي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، التزم العاهل المغربي الراحل الصمت، ولم يدل بأي تصريح مساند لها؛ كما أنه لم يعبر عن أي موقف من فوزها في الانتخابات، إلا بعد أن تدخل الجيش لإلغاء النتائج في 12 يناير من سنة 1992، إذ قال في تصريح لقناة فرنسية: “من المؤسف للغاية أن السلطات الجزائرية حظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في يناير 1992″، وتأسف أيضا لعدم تركها في السلطة، وانتظار كيفية تعاملها داخليا وخارجيا؛ بالإضافة إلى استنكار قرار السلطات الجزائرية حل حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإيداع زعمائه السجون.
وباستثناء هذه التصريحات الملكية، لم يتخذ النظام المغربي أي مواقف ملموسة لمساندة هذه المعارضة، كاحتضان بعض مكوناتها لتوظيفها في أي مساومة سياسية مع النظام الجزائري الذي دخل في حرب مع هذه المعارضة لأكثر من عشر سنوات، مفضلا حيادا سياسيا ومتابعة مجريات هذا الصراع من بعيد؛ بل أكثر من ذلك ساعد على تسليم بعض المعارضين الجهاديين الذين لجؤوا للمغرب، وعلى رأسهم عبد الحق لعييادة، بعد مقابلة للجنرال خالد نزار مع الملك الحسن الثاني.
التلويح بالورقة القبايلية لحماية المصالح العليا للدولة
إن انتصار النظام العسكري بالجزائر على معارضته الأصولية بشقيها السياسي والعسكري لم يمنع من مواجهته من جديد للحركة القبايلية. فبعدما ظلت علاقة القبايل بالسلطات المركزية الجزائرية متوترة منذ أحداث 1963 التي تزعمها الحسين آيت أحمد، وشهدت مواجهات مع الحكومة الجزائرية لأسباب عديدة: منها تعامل السلطة مع المنطقة باحتقار على جميع الأصعدة، من نقص في البنيات التحتية وعدم الاعتراف باللغة القبايلية، وتهميش الأطر والكوادر المنتمية لهذه المنطقة، خرجت حركة الماك للمطالبة باستقلال القبايل، حيث قامت بتقديم مذكرة إلى الأمم المتحدة سنة 2017، تدعو إلى الاعتراف الدولي بحق الشعب القبائلي في الاستقلال؛ كما قامت بتنظيم عدة تظاهرات، سواء أمام البرلمان الأوروبي ببروكسل أو أمام مقر الأمم المتحدة بجنيف، أو أمام السفارة الجزائرية في باريس، بالإضافة إلى ربطها علاقات دبلوماسية متينة مع العديد من المنظمات الدولية، مع خلق تلفزيون واتحاد طلاب خاص بمنطقة القبايل، فضلا عن اتحاد نسائي ووكالة لحماية البيئة، وتنسيق مستمر مع شخصيات عديدة لتأسيس منظمة الصداقة الفرنسية القبايلية. ومع ذلك، لم تلتفت السلطات المغربية لهذه القضية إلا مؤخرا، حيث تساءل المندوب الدائم للمغرب بالأمم المتحدة السيد عمر هلال عن تغافل الجزائر طرح مسألة حق تقرير المصير للمنطقة القبايلية كما تطالب بذلك بالنسبة للبوليساريو، داعيا إلى “تصفية الاستعمار في منطقة القبائل” في الجزائر، و”تقرير المصير للشعب القبائلي”. ما رد عليه مندوب الجزائر الدائم لدى الأمم المتحدة، سفيان مومني، بأن المملكة المغربية كانت تدافع إلى جانب الجزائر وموريتانيا عن تصفية الاستعمار من الصحراء الغربية في عهد الاحتلال الإسباني، وتعترف بحق الشعب الصحراوي في الحرية والاستقلال، مذكرا السفير المغربي بأن “مسألة الصحراء الغربية كانت ومازالت على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ عام 1963، وقد استفادت من دعم ثلاث دول مجاورة، وهي الجزائر، المغرب وموريتانيا”. في حين قامت السلطات الجزائرية باستدعاء سفيرها بالرباط، وإغلاق حدودها الجوية، قبل أن تقوم بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وتوقيف العمل بأنبوب الغاز المغاربي.
وبالموازاة مع ذلك عبر فرحات مهني، رئيس حكومة القبايل المقيمة بالمنفى، عن “تقدير القبايليين للمغرب لا حصر له عقب طلبه التداول بخصوص حق شعب القبايل في تقرير المصير، ضمن المناقشات الرسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة”، مؤكدا أن “حكومته ترغب في إقامة علاقات رسمية مع المملكة لما في ذلك من صالح للشعبيين”.
من هنا، يمكن للمغرب أن يهتبل هذه الفرصة لكي يتوفر على ورقة سياسية يمكن استعمالها في أي مفاوضات مقبلة مع الجزائر، إذ لا يعقل أن تبقى الجزائر محتفظة بورقة البوليساريو لتوظيفها لأكثر من خمسين سنة في مواجهتها مع المغرب، من خلال احتضانها سياسيا وتمويلها عسكريا والدفاع عنها دبلوماسيا، في وقت مازال موقف المغرب متأرجحا في مساندة حكومة منفى القبايل، بعد التعفف عن توظيف الورقة الأصولية في تسعينيات القرن الماضي.
وبالتالي، حان الوقت لجلوس الجزائر إلى طاولة المفاوضات مع المغرب باعتبارها الطرف الأساسي والوحيد في هذا النزاع الصحراوي المزمن، للبحث عن حل سياسي وواقعي بهذا الشأن، مقابل تنازل المغرب عن أي تحريك للملف القبايلي بالجارة الشرقية؛ فالسياسة قبل كل شيء لعبة تفاوض وكسب أوراق.
المصدر: وكالات