في الذكرى الأربعين لوفاة عبد الله الطيبي، المدير السابق للوظيفة العمومية بقطاع الوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة، قال عبد الخالق علاوي، أستاذ باحث بكلية الحقوق السويسي بالرباط، إن “عبد الله الطيبي، أو سي الطيبي كما كان سائدا بين أصدقائه وزملائه، ترك أثرا بالغا وطيبا في نفوس كل الذين عرفوه من قريب أو بعيد، وسواء اتفقت أو اختلفت معه، إن في الرأي أو في طريقة العمل، فإنه لا يمكن إلا أن تقدره وتحترمه لمعرفته القانونية وكفاءته وخبرته وخصاله الإنسانية”.
وأشار علاوي، في مقال له بعنوان “في الذكرى الأربعينية لوفاة السيد عبد الله الطيبي، المدير السابق للوظيفة العمومية”، إلى أن “كفاءة الرجل على المستوى المهني كانت موضع إجماع، يشهد بها حتى أولئك الذي قد يختلفون معه في الرأي أو التوجه أو في منهجية العمل”، موضحا أن “هذه الكفاءة ترجع بالأساس إلى المعرفة القانونية الواسعة التي كان يمتلكها، فهو لم يكن يدبر المهام المنوطة به تدبيرا تقنيا كما يفعل المسؤولون الآخرون، بل كان يضع المعرفة القانونية في صلب هذا التدبير”.
وبعدما تطرق علاوي إلى “المعرفة القانونية الواسعة”، و”اجتهادات إدارية خاصة ترتبط بفكر الفقيد”، و”مهارات فائقة في صياغة النصوص القانونية”، و”خصال إنسانية”، و”توجهات الوزارة… وهاجس تكوين الخلف”، ختم مقاله بالإشارة إلى أن “الأثر الذي خلفه الفقيد، والذي يرتبط بشخصه وبفكره، والذي طبع به منظومة الوظيفة العمومية المغربية، سيظل حيا لعقود من الزمن”.
هذا نص المقال:
غادرنا إلى دار البقاء في يوم الجمعة السادس من رمضان (1443 هـ) 8 أبريل 2022، السيد عبد الله الطيبي المدير السابق للوظيفة العمومية بقطاع الوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة.
والسيد عبد الله الطيبي، أو “سي الطيبي” كما كان سائدا بين أصدقائه وزملائه، تدرج في أسلاك قطاع الوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة، لمدة 37 سنة، تقلد خلالها مناصب مسؤولية عديدة لمدة 35 سنة، وتحديدا في مديرية الوظيفة العمومية، كان آخرها منصب مدير الوظيفة العمومية.
فقد تولى مناصب رئاسة قسم الخدمة المدنية وقسم المراقبة والمنازعات وقسم المعادلات والمباريات، ثم قسم الأنظمة الأساسية والأجور، ولعل ما يميز هذه الأقسام أنها شكلت العمود الفقري لمديرية الوظيفة العمومية وصلب المهام المنوطة بها، كما أن منصب رئيس قسم خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لم يكن بالمفهوم الحالي، سواء من حيث حجم المسؤولية أو طبيعة المهام، لاسيما بالنسبة لبعض الأقسام التي تولى الفقيد مسؤوليتها، فعندما نتحدث عن قسم الخدمة المدنية خلال عقد الثمانينيات فإننا نتحدث عن شبه مديرية داخل مديرية الوظيفة العمومية، بالنظر لطبيعة وحساسية المهام وخطورة المسؤولية، ونفس الأمر بالنسبة لقسم المعادلات والمباريات، حيث كان مناطا بوزارة الوظيفة العمومية، من خلال القسم المذكور، ترؤس لجان المعادلات بين الشهادات المنصوص عليها في الأنظمة الأساسية للموظفين، وهي لجان لم تكن لها مهام إدارية، بل مهام علمية كذلك، ونفس الأمر ينطبق على قسم المراقبة والمنازعات، حيث كان القسم بمثابة المستشار القانوني للإدارات العمومية في مجال المنازعات التي تهم مجال الوظيفة العمومية.
وعندما تولى الفقيد منصب رئيس قسم الأنظمة الأساسية، ثم رئيس قسم الأنظمة الأساسية والأجور، كان بمثابة مهندس لإصلاحات كبرى في مجال الوظيفة العمومية، منها على سبيل المثال إصلاح نظام الترقية في الدرجة، مراجعة منظومة التنقيط والتقييم، الهيكلة النظامية (حذف الدرجات المرتبة في سلالم الأجور من 1 إلى 4)، وغيرها.
أما بعد ما عين مديرا للوظيفة العمومية، فقد كان وراء أهم الإصلاحات التي عرفتها منظومة الوظيفة العمومية خلال نصف قرن، منها المراجعة الهامة للنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (القانون رقم 50-05 بتعديل وتتميم ظهير 24 فبراير 1958)، وإعادة النظر الشاملة في الهيكلة النظامية للوظيفة العمومية، من خلال تجميع الأنظمة الأساسية الخاصة بالموظفين، وكذا إصدار نظام جديد لمباريات التوظيف في درجات الوظيفة العمومية.
لقد قدر للفقيد أن يلعب دورا مؤسسا لمديرية الوظيفة العمومية، ومن ثم لوزارة الوظيفة العمومية وإصلاح الإدارة برمتها، حيث ساهم بقوة في رسم المعالم الكبرى للدور الحيوي الذي كانت تلعبه هذه الوزارة خلال العقود الماضية، قبل أن يخفت هذا الدور في السنوات الماضية بفعل عوامل موضوعية وذاتية، قد تكون من أبرزها طبيعة تدبير ونظرة وسلوك بعض الوزراء الذين تولوا مسؤولية تدبير الوزارة، والذين نظر بعضهم إلى الوزارة باعتبارها مجرد مطية لخدمة أجندتهم السياسية الضيقة، من خلال التركيز على كل ما يرتبط بالواجهة الإعلامية، فضلا عن تقاعد وهجرة أطر الوزارة، بالإضافة إلى عوامل أخرى قد لا يتسع المجال لذكرها، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى جعل مسألة بقاء قطاع الوظيفة العمومية كقطاع وزاري، في حد ذاته، موضع شك وتساؤل.
لقد ترك سي الطيبي أثرا بالغا وطيبا في نفوس كل الذين عرفوه من قريب أو بعيد، وسواء اتفقت أو اختلفت معه، إن في الرأي أو في طريقة العمل، فإنه لا يمكن إلا أن تقدره وتحترمه لمعرفته القانونية وكفاءته وخبرته وخصاله الإنسانية.
معرفة قانونية واسعة
لقد كانت كفاءة الرجل على المستوى المهني موضع إجماع، يشهد بها حتى أولئك الذي قد يختلفون معه في الرأي أو التوجه أو في منهجية العمل، وهذه الكفاءة ترجع بالأساس إلى المعرفة القانونية الواسعة التي كان يمتلكها، فهو لم يكن يدبر المهام المنوطة به تدبيرا تقنيا كما يفعل المسؤولون الآخرون، بل كان يضع المعرفة القانونية في صلب هذا التدبير، من خلال تفكيك عناصر الموضوع، سواء كانت قضية فردية أو مشروع نص قانوني، وتأصيلها تأصيلا قانونيا، ومن ثم محاولة إيجاد الأجوبة القانونية الملائمة، وهو بهذا قد يفاجئك بالحديث المسترسل والمسهب عن أصول ونظريات ومبادئ القانون الإداري والقضاء الإداري وقانون الوظيفة العمومية، بشكل يجعلك تقف منبهرا أمامه، بل قد يجول بك في مجالات قانونية أخرى كالقانون الدستوري وقوانين أخرى.
لقد شكل الفقيد بالفعل نموذجا مختلفا ومتميزا للمسؤول الإداري، فقد كان يؤمن بأنه لا يمكن تدبير المهام بدون معرفة قانونية، ولذلك كان مكتبه، في كل المسؤوليات التي تقلدها، مليئا ليس بالنصوص القانونية والملفات فقط كما هو حال مكاتب باقي المسؤولين، بل كان يزخر بالمراجع الفقهية في مجال القانون، ولا سيما القانون الإداري وقانون الوظيفة العمومية من كتب ومجلات وتقارير وأحكام قضائية، بل إن بعض المراجع الفقهية قد لا توجد في خزانات العديد من كليات الحقوق بالجامعات المغربية.
إلى جانب المعرفة القانونية كانت للفقيد ذاكرة قوية، فهو قد يسرد لك الجوانب التاريخية للنصوص القانونية في مجال الوظيفة العمومية، علما أن هذه الجوانب تعتبر جزءا هاما، بل مدخلا لإيجاد الحلول القانونية في كثير من القضايا القانونية المستعصية، وهذه المعرفة المتعلقة بالجوانب التاريخية لا تتعلق بتسلسل النصوص القانونية، بل قد ترتبط في بعض الحالات بالحيثيات والاعتبارات التي تفسرها.
اجتهادات إدارية خاصة ترتبط بفكر الفقيد
بحكم الدور الأفقي لمديرية الوظيفة العمومية باعتبارها الساهرة على تطبيق أحكام النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالوظيفة العمومية، لا سيما من خلال تأويل النصوص القانونية عندما يقتضي الأمر ذلك، فقد كانت للفقيد مهارات خاصة في التعامل مع مسألة التفسير والتأويل تتأسس، فضلا عن المعرفة القانونية الواسعة، على خبرة طويلة في التعامل مع النص القانوني، إعدادا وقراءة وتطبيقا. والأهم من ذلك هو نظرته الخاصة في تأويل النص، حيث كان يميل غالبا إلى إعمال التفسير المبني على روح النص والمرتبط بإرادة المشرع بدل التقوقع في كلمات وشكليات النص.
ولعل خصوصية هذه النظرة هي التي كانت تشكل متنفسا في تجاوز العديد من الإشكاليات التدبيرية بالإدارات العمومية، وهي التي أنتجت الكثير من الاجتهادات الإدارية في مجال الوظيفة العمومية وتدبير الموارد البشرية، إما في شكل مناشير، أو رسائل إدارية، والتي أصبحت مواقف تواتر العمل بها في المصالح المكلفة بتدبير الموارد البشرية بمختلف القطاعات الوزارية والجماعات الترابية.
إن أرشيف مديرية الوظيفة العمومية لا يزال يحتفظ بكثير من هذه الاجتهادات في مختلف جوانب تدبير المسار المهني للموظف، كالتوظيف والترقية والتأديب واللجان الإدارية المتساوية الأعضاء وغيرها، وهي الاجتهادات التي ترتبط حصرا بشخص وبفكر الرجل.
مهارات فائقة في صياغة النصوص القانونية
كان للفقيد اطلاع واسع في مجال تقنيات التحرير الإداري، وعلم صياغة النصوص القانونية، وهذا الاطلاع لم يكن أبدا ذا طبيعة نظرية، بل مستوحى من الممارسة أولا، فقد كان أسلوبه في تحرير المراسلات الإدارية وفي صياغة النصوص القانونية في غاية الإتقان والدقة، بحيث تجتمع فيه مختلف عناصر وشروط الجودة المتعارف عليها في علم الصياغة القانونية.
ولعل النصوص القانونية من قوانين ومراسيم وقرارات تنظيمية ومناشير، ومئات الرسائل الإدارية الموجودة في أرشيف مديرية الوظيفة العمومية، تظل شاهدة على الإرث الذي خلفه السي الطيبي، كما أن المسؤولين والموظفين الذين ما زالوا في الوزارة أو الذين غادروها لا شك أنهم يقدرون مهارات الرجل وقدراته الهائلة في هذا المجال.
خصال إنسانية
قيم الإخلاص والتفاني في العمل: يشهد كل من عرف الفقيد حبه لعمله، إلى درجة الشغف، فقد كان يعتبر حب العمل أساس النجاح المهني، ولذلك لم يكن غريبا أن يأخذ العمل في كثير من الأحيان من وقت راحته ووقت عائلته، فلم يكن يتهافت على الاستفادة من إجازاته السنوية، ولم يكن وقت خروجه اليومي من العمل هو التوقيت الرسمي، بل في الغالب الأعم يكون آخر من يغادر الإدارة.
كما كان الفقيد خدوما، فقد يتصل به على الهاتف مدير للموارد البشرية أو رئيس قسم بإحدى الوزارات في ملف أو قضية شائكة، ليس فقط في وقت العمل بل حتى بعد هذا الوقت، بل حتى ليلا، ويجيب بدون تردد ويستمع إلى المتصل ويناقش معه الموضوع بدون ضجر، محاولا البحث معه عن الحلول القانونية المناسبة.
التواضع: مع كل الخبرة والكفاءة والمعرفة القانونية التي كان يمتلكها، وبصرف النظر عن منصب المسؤولية الذي كان يتولاه، كان الفقيد متواضعا تواضع العلماء، فقد يستشيره المسؤول الكبير الذي قد يكون وزيرا، أو مديرا أو مسؤولا نقابيا، كما قد يقصده موظف بسيط أو عون أو حارس الوزارة أو سائق، وهو يتعامل مع كل هؤلاء بنفس القدر من الاهتمام وكرم التعامل.
الجرأة والصدق والتلقائية: عرف عن الفقيد جرأته في التعبير عن الرأي، فهو يدافع عن الرأي الذي يقتنع به بكل جرأة وصلابة، ومن المؤكد أن كل من كان يحضر أو يسمع عن صدى الاجتماعات التي كان يشارك فيها، يتذكر ويعرف استماتة الفقيد في الدفاع عن مواقف مديرية الوظيفة العمومية والوزارة بشكل عام تجاه الإدارات الأخرى، بقوة الدليل والحجة. ولعل هذا ما كان يعطي مديرية الوظيفة العمومية، ومن خلالها الوزارة، مكانة مركزية ودورا فاعلا في المشهد المؤسساتي، باعتبارها الفاعل المؤسساتي الأول المعني بتدبير قضايا الوظيفة العمومية، والمخول بحكم القانون بالسهر على إعداد وتنفيذ السياسية الحكومية في مجال الوظيفة العمومية.
توجهات الوزارة.. وهاجس تكوين الخلف
لم يكن الفقيد راضيا عن كثير من مظاهر تدبير الوزارة، ومما كان يؤلمه كثيرا توجه الوزارة نحو مكاتب الدراسات وتهافت بعض الوزراء ومعهم بعض المسؤولين على الشركات لإنجاز دراسات تتعلق بمشاريع الإصلاح، وهذه الدراسات فضلا عن شبهات الفساد التي قد تشوب البعض منها، لا تستفيد الوزارة في الغالب الأعم من نتائجها، ولا يتم العمل بها، بل إن التقارير التي تتمخض عن كثير من هذه الدراسات قد لا يطلع عليها إلا بعض المسؤولين، وكأنها سر إداري، والحال أنه أقل ما ينبغي القيام به هو نشرها وتعميمها على المسؤولين والأطر من أجل الاستفادة منها، هذا إن كانت تتضمن فعلا ما يفيد مشاريع الإصلاح.
هذا المنحى في توجه الوزارة كان في مقابل عدم الاهتمام بالعنصر البشري، الذي يشكل أساس فعالية ومستقبل الوزارة، فقد لوحظ أن التفكير في تكوين الخلف من الأطر لم يكن أبدا موضوع اهتمام جدي من طرف المسؤولين، وهذا ما كان يؤرق الفقيد كذلك، لاسيما فيما يتعلق بمديرية الوظيفة العمومية.
ولا شك أن مثل هذه التوجهات التي جعلت مصالح الوزارة مجرد وحدات للإعلان عن الصفقات العمومية المتعلقة بالدراسات، وتتبع تدبيرها، مع ما يترتب عن ذلك من احتمال إهدار المال العام وتثبيط عزائم المسؤولين والأطر، قد تكون من العوامل الرئيسية التي أدت إلى إضعاف موقع الوزارة، والتفكير بالتالي في حذفها من المشهد المؤسساتي.
في الأخير، لا يمكن مطلقا أن يتم إيجاز مسار سي الطيبي في بعض السطور، سواء على المستوى الإنساني أو المهني، ويكفي الفقيد أن عددا هائلا من المسؤولين والموظفين في القطاعات الوزارية وفي الجماعات الترابية وفي النقابات وغيرها من الهيئات، ما زالوا، بدون شك، يحتفظون له بذكريات طيبة.
ويكفيه أيضا الأثر الذي خلفه ليس في قطاع الوظيفة العمومية فقط، بل في مختلف القطاعات العامة. هذا الأثر الذي لا يتمثل فقط فيما سبق ذكره من نصوص قانونية واجتهادات إدارية، بل يتجسد كذلك في مشروع إصلاح شامل لمنظومة الوظيفة العمومية، من خلال مشروع القانون المتعلق بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، والذي يشكل إعادة نظر شاملة في ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، ويضع أسس تصور جديد لنظام تدبير الموارد البشرية بالإدارات العمومية.
إن هذا الأثر الذي خلفه الفقيد، والذي يرتبط بشخصه وبفكره، والذي طبع به منظومة الوظيفة العمومية المغربية، سيظل حيا، لعقود من الزمن.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.
المصدر: وكالات