زعيم أوروبي توسعي يطالب فورا باحتلال إقليم صغير عند جيرانه لضمّه. يتفاوض معه الأوروبيون فيخيّرهم: إما الضم وإما الحرب. يسترضونه في فيلم يقرأ اللحظة الأوروبية التي تجر العالم نحو مجاعة في فيلم: Munich: The Edge” of War ” (2022) من إخراج كريستيان شووشوف. وقد صدر الفيلم في “نيتفليكس” قبيل مهاجمة روسيا لأوكرانيا. تبدأ أفلام “نيتفليكس” بنبضة قلب أقرب لضربة طبل كأن فعل المشاهدة حرب… نتيجة المشاهدة المعركة: حسب “نيتفليكس”، 98 في المائة من المشاهدين راضون عن الفيلم.
هذا فيلم جديد عن الحروب الأوروبية، عن صداقة شخصية في خدمة السلام بين بلدين عدوين: صديقان سابقان من بلدين على وشك الدخول في حرب… تعقيدات مهنية تحطم علاقة زوجية بدأت دافئة. نتابع شابين صادقين نزيهين لكي يصعب على المتفرج الانحياز بسهولة لأي منهما. أحدهما شخصية من صنف البطل وفي صفّه ظاهريا، لكن عمليا يؤذيه أثناء المزاح… شخصيات مرسومة بدقة وليست كحبات بطاطس لا ملامح لها.
في لحظة تاريخية ينخرطان في سباق ضد الساعة لمنع الحرب دبلوماسيا. لكن ليس من السهل تغيير الواقع على طاولة المفاوضات مع زعيم يفاوض ويهاجم، ويثبت محدودية حسن النية في السياسة. وهذا درس لكل سياسي متفائل: لا يمكنك أن تلعب إلا بالأوراق التي تملك.
حين لا يملك السياسي وسائل ضغط لتغيير الواقع على الأرض تكون الخسارة مضمونة.
يقدم الفيلم زعيما ديكتاتوريا دمويا يرسّخ ممارسات عبادة الشخصية في مواجهة رئيس وزراء بريطاني ديمقراطي حكيم يختار قراراته بدقة. هذا هو الزعيم السياسي الحقيقي، حسب هنري كيسنجر، الذي يعرف الزعيم الحقيقي قائلا:
“ينطوي هذا الأمر على حجم إدراكه، ومن خلال سير القرارات التكتيكية، المصالح الطويلة الأمد لبلاده مع رسم استراتيجية مناسبة لتحقيقها” (هنري كيسنجر “الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا”، ترجمة مالك فاضل البدري، الأهلية للنشر والتوزيع، ص: 150). استراتيجية تضمن الأمن والازدهار والاستقرار وتستهدف صفر مشاكل. لتحقيق ذلك تنطوي مسؤولية رجل الدولة، حسب كيسنجر، على حل المعضلة لا تأملها (ص: 156).
كيف يتحقق ذلك في الفيلم؟
فبين أن يصغي رئيس الوزراء إلى طلبات الناخبين ويصعّد ضد ألمانيا النازية أو يعقد هدنة مع هتلر، يختار الهدنة ويُغضب ناخبيه. يختار ما يساعده على كسب الوقت حفاظا على السلام حتى لو غضب الناخبون وخسر السلطة. شعار رئيس الوزراء: السلام أهم من السلطة.
هذا هو السياق العام الذي يحتضن سياقا شخصيا: الشبيبة تحتفل، ألماني وإنجليزي وبينهما شابة يهودية سعيدة، العالم يتعافى من الأزمة الاقتصادية 1929 والأفق واعد… لبريطانيا رئيس وزراء حكيم ومخابرات ماهرة تخترق نظام هتلر بسهولة، لمسة دعاية وطنية حماسية.
بينما يحتفل الأصدقاء بتخرجهم في مطلع الفيلم، تنتشر مفرقعات ونار حولهم، ينتشر الرعب… ثم يتضح أن ذلك مجرد شهب صناعية… أحلام الشعوب الأوروبية في السلام كبيرة… في نهاية الفيلم تسمع مفرقعات نار حقيقية تقتل في مطلع الحرب العالمية الثانية…
مخرج ألماني شاب يخرج فيلما بريطانيا عن معاهدة ميونيخ 1938 الغبية التي سهلت مهمة هتلر للبدء باجتياح أوروبا البعيدة عن أمريكا. يملك هذا الفيلم راهنية كبيرة بينما تعيش أوروبا حربا مدمرة تهدد بالتمدد في أية لحظة… كان للحرب العالمية الثانية، ولايزال، وزن رهيب في اللاوعي الأوروبي… يتعزز هذا حاليا بسبب الحرب في أوكرانيا واحتمال تمددها إلى دول أخرى، وهذا مسألة وقت فقط… وبما أن ألمانيا تتسلح في 2022 لتواجه روسيا، فإن فرنسا تفكر في سيناريو 1938… بوضع الفيلم في سياق التتابع التاريخي لأفلام الحرب العالمية الثانية، يبدو الفيلم مقدمة لوقائع فيلم “دونكيرك” (2017) للمخرج كريستوفر نولان، الذي تجري أحداثه في 1940.
الفيلم عن معاهدة ميونيخ. دراما تاريخية جديدة عن حروب أوروبا التي لا تنتهي. سرديا، تتقدم أحداث الفيلم سريعا ولا تلتف حول نفسها. بصريا، الفيلم قصيدة ضوء… أسلوبيا، لا يوجد بحث يهدف إلى جعل الأسلوب التصويري يطغى على الموضوع… تعمل كاميرا المخرج كريستيان شووشوف كأنها غير موجودة كوسيط بين المتفرج والحدث، لا توجد حركات كاميرا مفتعلة لإظهار العبقرية. يتجنب المخرج كاميرا “تزعق وتعلن وجودها” كما حذر ثيو أنجيلوبولوس. بينما نرى العكس في فيلم كريستوفر نولان حيث الكاميرا تعلن عن وجودها في كل لقطة وهي تقترب وتبتعد وتطارد موضوعها، تلعب على تناوب المتناهي الصغر والمتناهي الكبر وتحذف اللقطات الوسيطة.
يمكن لبعض الأفلام أن تزداد حظوظها في النجاح بفضل الظرفية التاريخية التي صدرت فيها. يعتبر أندري بازان أن “الزمن المرجعي للمشاهد هو الآن” (“ما هي السينما”؟ ص: 30). لأن المشاهد يقارن وقائع الفيلم الذي يشاهده بعصره.
يتخذ السرد بنية دائرية في فيلم يهاجم اللحظة التاريخية التي تعيشها أوروبا حاليا. الدائرة هي الشكل الأرقى حتى في السرد، لذلك تُستخدم هذه التقنية السردية المضمرة لمساعدة المتلقي ليربط ويقارن النهاية بالبداية، ليكتشف كم يشبه الحاضرُ الماضي.
هكذا تتوازى دائرية السرد ودائرية التاريخ الذي يهدد بإعادة نفسه… كم هي هشة أوروبا بعرقييها وقومييها العُميان رغم كل الدم الذي سال.
المصدر: وكالات