قال إدريس لكريني، الأستاذ الجامعي ومدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات، في مقال له بعنوان “الرّياضة ورهانات السلام العالمي”، إن “الرياضة أضحت أحد روافد التنمية، وغدت قطاعا منتجا، بالنظر إلى الشعبية العالمية التي تحظى بها، كما استثمرتها الكثير من الدول والمنظمات في ترسيخ قيم تربوية وإنسانية نبيلة وتحقيق مكتسبات اقتصادية”.
هذا نص المقال:
أضحى تحقيق السلام في الوقت الراهن مطلبا ملحّا، بالنظر إلى تفاقم الصراعات والنزاعات الدولية وظهور أسلحة أكثر فتكاً بالإنسانية، علاوة على بروز مجموعة من المخاطر الدولية الجديدة التي تتجاوز في تداعياتها حدود الدول، كما هو الشأن بالنسبة لتلوث البيئة، وندرة المياه، وتفاقم الجريمة المنظمة، والإرهاب الدولي بكل أشكاله، والصراعات والنزاعات الإثنية، والأمراض المعدية والمميتة العابرة للحدود، والجرائم الإلكترونية.. والتي ألقت بتحدياتها القاتمة وإشكالاتها المعقّدة على دول العالم قاطبة.
وقد تزايدت الدعوات الأكاديمية والسياسية إلى بلورة سبل أكثر انفتاحا وتطورا لمواجهة كل الإشكالات التي تواجه تحقيق السلم والأمن الدوليين في أبعادهما المختلفة، مع تنامي هذه التهديدات غير العسكرية وغير «الدولاتية»، ما أفرز نقاشات واسعة في هذا الصدد، حيث بدأ الحديث عن أهمية توظيف المداخل الناعمة لكسب هذا الرهان الإنساني.
وقد تنبّهت الكثير من المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، إلى الانتشار الكبير الذي أصبحت تحظى به الرياضة بمختلف أصنافها في أوساط الشعوب، والاهتمام الذي تلاقيه في الأوساط الإعلامية والاقتصادية والسياسية.. بما يجعلها قادرة على تلطيف العلاقات بين الدول، ووسيلة للتقريب بين الشعوب وخدمة للسلام العالمي في عالم متشابك ومثقل بالتحديات.
وقد أضحت الرياضة أحد روافد التنمية، وغدت قطاعا منتجا، بالنظر إلى الشعبية العالمية التي تحظى بها، كما استثمرتها الكثير من الدول والمنظمات في ترسيخ قيم تربوية وإنسانية نبيلة وتحقيق مكتسبات اقتصادية.
إن أهمية الرياضة تكمن- إلى جانب الأهمية الصحية- في أبعادها الإنسانية والأخلاقية والتربوية، وهي العناصر التي طالما رسخت قيم الود والتضامن والحوار والتواصل.. بعيداً عن «مكر» السياسة ومنزلقاتها. فهي مجال يمكّن النّشء من إبراز مقدراته وإمكانياته في إطار من التنافس والتكافؤ وفق ضوابط واضحة. وعلاوة عن كونها وسيلة للتفريغ والتسلية وإثبات الذات، مثلما هو الأمر بالنسبة لأدوار الأندية الثقافية والمسارح والمعاهد الفنية..، فهي تربي الفرد على قيم الروح الرياضية والتسامح، التي تتجلى في مصافحة الخصم وتهنئته بالنصر، واعتبار الهزيمة محطة للوقوف على مختلف الأخطاء والمنزلقات ومكامن الضعف، والسعي لتجاوزها مستقبلاً.
استغل إشعاع ونبل الرياضة في كثير من الأحيان بصورة منحرفة من قبل بعض النظم السياسية في تسويق «مشاريعها» الهدامة وتحقيق طموحاتها وتطلعاتها الخاصة. فقد وظفها كل من موسوليني وهتلر بشكل مكثف في الترويج لنظاميهما الفاشي والنازي، كما سعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقا) إلى توظيف عدد من المناسبات واللقاءات الرياضية في تأجيج الصراع الذي كان قائماً بينهما خلال فترة الحرب الباردة. كما استُغلّت الكثير من المناسبات الرياضية لتعبئة الأفراد وتوجيههم وشحنهم وإلهائهم بصراعات و”معارك وهمية” أسهمت في تضخيمها وسائل الإعلام (مقابلة كرة القدم بين مصر والجزائر في السودان عام 2009).. وهو الأمر الذي أثر بالسلب في مسار الرياضة وأدّى إلى تحريفها عن أهدافها النبيلة، وجعلها وسيلة لتمرير المواقف السياسية واستغلال مشاعر الجماهير لأغراض سياسية ضيقة.
في مقابل ذلك، شكّلت الكثير من الأحداث الرياضية فرصة لخدمة وترسيخ السلام، فبطولة العالم لكرة الطاولة (البينغ بونغ) التي انعقدت باليابان عام 1971 كانت مناسبة جيدة لتلطيف الأجواء المشحونة بين الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية وإرساء أرضية للحوار بينهما، بعد قطيعة دامت أكثر من عقدين، ضمن ما سمي حينئذ بدبلوماسية «البينغ بونغ». وخلال الدورة الأولمبية التي نظمت في بكين عام 2008، حاولت الصين استثمار نجاحها في تنظيم هذه الدورة وتقدّمها في ترتيب الميداليات المحصل عليها، لتسويق صورة بلد منفتح ومتطور يسير باتجاه تأكيد تفوقه في مختلف الميادين والمجالات ويتجه نحو فرض قطبيته الصاعدة في مواجهة الانفراد الأمريكي بالساحة الدولية، وهو ما حرصت عليه روسيا أيضا خلال استضافتها فعاليات بطولة كأس العالم في كرة القدم عام 2018.
وتشير الممارسة إلى انخراط عدد من الأندية الرياضية الدولية أو بعض الرياضيين المشهورين في بلورة مبادرات إنسانية تدعم التحسيس بمآسي بعض الفئات الاجتماعية المظلومة أو المهمشة أو بمخاطر بيئية تهدد الإنسانية أو بمعاناة إنسانية مختلفة (تمييز عنصري، فقر، حروب، أمراض..) بما يسهم في لفت النظر إلى هذه القضايا، وتشكيل رأي عام دولي واسع مواكب ومؤثر في هذا الخصوص.
لقد دعت مختلف المنظمات الدولية كالأمم المتحدة إلى جعل الرياضة وسيلة لتعزيز العلاقات الدولية وتلطيف حدة التوتر بين الدول، وآلية للتقريب بين الشعوب، خدمة للسلام العالمي. وفي هذا السياق سبق للجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة أن اعتبرت في قرارها رقم 60/1 لعام 2005 أن بإمكان الرياضة أن تسهم في تحقيق الأهداف الإنمائية للتنمية، قبل أن تجعل تاريخ 06 أبريل من كل عام يوما دوليا للرياضة من أجل التنمية والسلام بمقتضى قرارها رقم 67/296 لعام 2013.
لا تخفى أهمية القيم النبيلة التي ترسّخها الرياضة، من حيث تلطيف الأجواء السياسية، وتفريغ الطاقات، وتنشئة الفرد على التعايش داخل المجتمع، وإصلاح وترميم المشاكل التي قد تخلّفها السياسة إن على الصعيد الداخلي أو الدولي، وتزداد الحاجة إلى إسهام الرياضة على اختلاف أنواعها في ترسيخ قيم التسامح والسلام والتواصل والتضامن وإشاعة روح الحوار بين أطراف المجتمع ذاته أو بين مختلف الشعوب والأمم في هذه المرحلة «الحرجة» من تطور العلاقات الدولية، والمثقلة بتحدياتها وإشكالاتها الخطيرة العابرة للحدود.
المصدر: وكالات