من فوق قلعة هضبة الوداية حيث يلتقي النهر والبحر، يتبدى أن هذا المحيط ثروة مهولة، النهر صغير محدود بينما المحيط لا نهائي. البحر هو المغرب، المغرب هو هبة الأطلسي، هذا ما تقوله اللحظة، لكن لا يقوله التاريخ والإحصاءات، التي تكشف أن المغربي يستهلك 246 كلغ دقيق سنويا وفقط 9 كلغ سمك حسب إحصائيات 2010.
في مطعم مطل على البحر يطلب الزبناء طاجينا بلحم العجول وخبز تافرنوت.
المغاربة شعب برّي يقدس الخبز، لذا يسمح برمي سمكة طازجة ولا يسمح برمي خبزة حافية على الأرض. شعب استوطن الجبال وحتى الصحراء الداخلية بعيدا عن السواحل كما لاحظ المؤرخ الناصري في كتاب “الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى”.
لقد روى الناصري وقائع هروب المغاربة إلى الجبال وتركهم الشواطئ للفرنج (ج1 ص 122). والسبب في هذا الهروب من البحر إلى البر، حسب المؤرخ، هو أن الفرنجة والروم أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن، وكانوا مَهرة في ركوب البحر (ص 125). لذا هجر المغاربة البحر بحثا عن السلامة في البَر، بل وفي الجبل. كتب ليون الأفريقي “يحمي الجبل حرية سكانه” (وصف إفريقيا، ص 186).
لذا فالمغاربة شعب بري، وأهم مدنهم داخلية مثل وليلي وفاس وشفشاون وتارودانت ومراكش ومكناس وتيفلت… بعيدا عن هجومات القراصنة البرتغاليين والإسبان.
لكن منذ القرن التاسع عشر، ومع بدء فرض اتفاقيات التجارة الإجبارية مع القوى الأوروبية، ومع توالي سنوات الجفاف والجوع والأوبئة، بدأ المغاربة يقتربون من البحر، حتى أن أهم المدن الحالية بحرية مثل طنجة والدار البيضاء وأكادير والعيون، بعد أن كانت فاس وأغمات وسجلماسة هي قلب المغرب.
بدأ النزوح إلى شواطئ المغرب بعد مجاعة 1850، وبين 1836 و1867 تضاعف عدد سكان البيضاء تسع مرات والجديدة خمس مرات، والآن يسكن أكثر من نصف سكان المغرب مدنا بحرية.
شخصيا رأيت البحر لأول مرة في حياتي في سن الرابعة عشرة وسبحت فيه لأول في سن العشرين، ومنذ ذلك الحين قررت أن أعمل وأعيش في مدينة شاطئية لا تزيد حرارتها عن 26 درجة.
البحر فضاء وزمن وحكايات ممتدة من سيدي علال البحراوي ولالة عائشة البحرية حتى أفلام جيمس كاميرون عن البحر.
بفحص فلسفة وسردية المكان المائي، كثيرة هي الحكايات العجيبة على ضفاف البحر المتوسط، وتقول الحكايات إن هذا البحر نتيجة لحدث عجائبي أنجزه هرقل هازم الأسد، وهو بطل نصفه بشر ونصف إله. غضب هرقل فضرب الجبل فانشق فنشأ بحر المتوسط، ففصل أفريقيا عن أوروبا، ووصل ماء المتوسط بماء المحيط لأطلسي عبر برزخ. وقد حكت السينما أسطورة Hercule في أفلام كثيرة، آخرها “هرقل” 2014 من إخراج بريت راتنر.
في عالم اليوم الشعوب البحرية أغنى. المكان ليس مجرد جغرافيا صماء. البحر شاطئ ممتد وحكايات تستحق بحثا سرديا وأنثروبولوجيا (تبلغ مساحة البحر التابع لسيادة المغرب أكثر من 112000كلم مربع).
تفاعلا مع هذا التوجه نحو البحر تُهندس المملكة المغربية سياستها الاقتصادية بغرض نقل المغرب من الاقتصاد الأخضر إلى الاقتصاد الأزرق، من الحقل إلى البحر، لينتقل الشعب من تناول الخبز المضر بالصحة والأسنان والمكلف إلى تناول السردين الأرخص.
لتحقيق هذا الهدف السامي بسرعة تفاوض الشابان ناصر بوريطة وخوسيه مانويل ألباريس في نهاية 2023 على ترسيم الحدود البحرية المغربية الإسبانية.
يجري هذا بعد أربع سنوات من تصريح وزيرة الخارجية الإسبانية أرانشا غونزاليز لايا في يناير 2020 بالرباط بأن “من حق المغرب القيام بترسيم حدوده البحرية، وله الحق في منطقة اقتصادية وهذا أفهمه”.
سيمكن ترسيم الحدود والاستثمار في الأطلسي من خلق اقتصاد بحري كبير كما أعلن عن ذلك الملك محمد السادس في خطاب الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء. قال الملك:
“إذا كانت الواجهة المتوسطية تُعدّ صلة وصل بين المغرب وأوروبا، فإن الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو أفريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأميركي”.
وأضاف الملك أن “غايتنا أن نحول الواجهة الأطلسية إلى فضاء للتواصل الإنساني والتكامل الاقتصادي والإشعاع القاري” مع حوالي أربعة ملايين كيلومتر على الأقل، وهي مساحة دول الساحل: مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو.
ستمكن هذه الاستراتيجية الشعب البرّي من أن يصير شعبا بحريا يطبخ السمك في الأعراس والجنائز.
حاليا، يستهلك المغربي الحبوب أكثر من السمك، لكن مع مرور الأجيال سيصبح المغاربة شعبا بحريا. لقد أدركوا أن الرزق في البحر أسهل من الرزق في البر، وستتوالى الهجرات إلى الشريط الساحلي ليتم استبدال الشعير بفواكه البحر، فمجاورو البحر لا يجوعون، وهم أكثر تفتحا لأن للأمكنة تأثير هائل على طبائع البشر.
يفيد الهواء المُملح المخ.
المصدر: وكالات