في اللسان الأمازيغي تحيل كلمة “دَاراَتْ وَفَا” إلى ما وراء الجبل، وهو معنى يلخص إلى حد كبير واقع حال منطقة تنتمي ترابيا إلى إقليم سيدي إفني وجهة كلميم وادنون، وتعيش وراء جبال من النسيان والتهميش والعزلة بكل ما لهاته الكلمات من معان ودلالات.
هنا دوار “دارات وفا” بجماعة تنكرفا..لا صوت يعلو فوق أنين العزلة التامة والمعاناة المريرة التي تعيشها 39 أسرة منذ سنوات طويلة، في منطقة تنعدم فيها كافة شروط الاستقرار، وتغيب عن ترابها جميع المقومات الضرورية لضمان عيش كريم؛ أما الكماليات فالحديث عن الظفر بها في هذه البلدة أشبه بضرب من الخيال.
لا ربط بالماء ولا بالكهرباء ولا طرقا معبدة ولا مستوصفا للتطبيب، هو عنوان عريض يلخص حجم المعاناة اليومية التي يعيشها سكان “دارات وفا”، ويشير إلى حد كبير إلى أن عجلة التنمية لم يسبق لها أن تحركت في هذه الربوع منذ فجر الاستقلال إلى حدود اليوم.
ورغم أن “دارات وفا” لا تفصلها عن مدينة كلميم، القلب النابض للجهة، سوى 25 كيلومترا، إلا أن هذا لم يشفع لها نهائيا لكي تحظى بالتفاتة تنموية تقيها من عطش الصيف وعزلة الشتاء التي تزيد من حدتها الطريق الكارثية الرابطة بينها وبين المدينة ذاتها، باعتبارها الملاذ الأول والأخير للساكنة قصد قضاء كافة أغراضها.
منازل معزولة غالبيتها مشيدة من طين تقطنها ساكنة تعيش على الرعي كمورد رئيسي للعيش، إضافة إلى مجموعة من الأعمال الشاقة، كالبناء والحصاد، مقابل أجر يومي محدود، وضفائر لتجميع مياه الأمطار وبعض لوحات الطاقة الشمسية لطرد لعنة الظلام وغيرها…وكلها إشارات تجعل زائر هذه المنطقة المنفية يحس وكأنه حط قدميه بأرض توجد خارج الزمن.
معاناة مريرة
هشام زربان، رئيس جمعية دارات وفا للتنمية، قال في تصريح لجريدة هسبريس: “مازلت أستغرب كيف أننا في القرن الواحد والعشرين وبمغرب التقدم والازدهار ومع ذلك مازالت منطقة قريبة من مدينة كلميم باعتبارها عاصمة الجهة تعيش على وقع معاناة مريرة جدا بسبب انعدام أبسط شروط العيش المتمثلة في الربط بالماء والكهرباء والطرق”.
وأوضح زربان أن “متطلبات الاستقرار بدوار دارات وفا غائبة تماما، إذ إن الطريق المؤدية إليه يستحي المرء أن يسميها طريقا، بالنظر إلى وعورتها وامتلائها بالحجر الذي جعلها مسلكا صعب المنال أمام السيارات العادية ولا يمكن قطعها إلا عبر العربات رباعية الدفع”.
واستدرك المتحدث ذاته: “تخيل معي إذا تعرض شخص أو طفل صغير للسعة عقرب أو لدغة أفعى أو جاء المخاض امرأة حامل فكيف ستتم عملية نقلهم نحو المستشفى بكلميم عبر طريق كارثية؟ فبلا شك فهم سيواجهون الموت المحتم”.
“معاناة يومية ومتجددة مع كل فصل شتاء، إذ تفسد الطريق بسبب الأمطار وتتضاعف العزلة، وصيفا يشتد العطش وتكثر لسعات العقارب، وفي كلتا الحالتين تجد الحوامل صعوبة في التنقل نحو المستشفى، ما يجعل فئة كبيرة منهن مضطرات للاستقرار في كلميم أو أي مدينة أخرى بها مؤسسة صحية إلى حين الوضع. كما تصعب أيضا عملية وصول المواد الغذائية إلى الدوار التي تمر عبر مراحل طويلة انطلاقا من السوق الأسبوعي في تنكرفا أو خميس تيوغزة أو كلميم، وهو ما يحتاج مجهودا مضاعفا من رب الأسرة الذي يجب أن يكون نبيها في اختيار السلع التي لا يمكن أن تفسد بعد وقت وجيز”، يورد رئيس جمعية دارات وفا.
كما أشار هشام زربان إلى أن “الساكنة تعيش معاناة مضاعفة مع غياب الماء الصالح للشرب وتوالي أيام الجفاف وصعوبة وصول صهاريج الماء إلى المنطقة بسبب وعورة الطريق المؤدية إليها، وكحلول بديلة يتم الاعتماد على مياه الأمطار، وفي حالة غيابها يضطر البعض إلى الهجرة إلى غاية هطول المطر، فيما البعض الآخر يستعين بصهاريج الماء التي تصل بأثمان باهظة للدوار”، وتابع: “أما بالنسبة للكهرباء فتعتمد بعض ساكنة الدوار على الطاقة الشمسية لتوفيرها، لكنه يبقى حلا غير كاف بالمرة، لأنه لا يسمح بتشغيل كافة الأجهزة الضرورية، إذ يستحيل معه تشغيل الهاتف أو الحاسوب أو المعدات الكهربائية التي يحتاجها المواطن بشكل يومي، فيما يعتمد بعض السكان على فتيلة الغاز كوسيلة للإضاءة”.
أما بخصوص النقل فقال زربان إنه “كحل لانعدام وسائل عمومية من سيارات أجرة وحافلات يتم الاعتماد على النقل السري مقابل 25 درهما ذهابا إلى كلميم ومثلها إيابا نحو المدشر، دون احتساب البضائع، وذلك عبر سيارات رباعية الدفع، على اعتبار أن هذا النوع من العربات هو الوحيد الذي يمكن أن يتأقلم مع الطريق الكارثية، فيما تعتمد فئة أخرى من الساكنة في تنقلها على الدراجات النارية”.
لا مستوصف ولا إسعاف..
في حديثه عن الخدمات الصحية قال هشام زربان إن دوار دارات وافا “لا يتوفر على مستوصف ولا أي مركز صحي قريب، وفي حالة المرض تضطر الساكنة للتنقل نحو كلميم، متجرعة بذلك معاناة مرة”، مشيرا إلى أن “المرأة الحامل تكون بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن تضع مولودها في الدوار وهذا أمر فيه مخاطرة كبيرة بحياتها وحياة جنينها، أو التنقل والبقاء بكلميم إلى حين وضعها وهو أمر متعب للعائلات معنويا ونفسيا وماديا”.
وتابع الفاعل الجمعوي ذاته: “تخيلوا فقط أن تقطع امرأة حامل مسافة 25 كيلومترا في طريق مهترئة وهي في مخاضها، على أن تقطع المسافة نفسها مجددا بعد الوضع في معاناة قاسية جدا؛ وبالتالي فإن الجانب الصحي هو كارثة بكل المقاييس، ومن العار أن يقع هذا ونحن في القرن الواحد والعشرين”.
“أما بخصوص سيارة الإسعاف فلا أتذكر أن شخصا من الدوار استفاد يوما منها، وكنا ذات يوم في لقاء من رئيس الجماعة نتحدث عن الاستفادة من الإسعاف، ووقفنا على حقيقة مفادها أنه منذ العام الماضي وإلى حدود اليوم لا وجود لأي فرد من ساكنة الدوار سبق له الاستفادة منها، بل حتى وصول المعلومة للساكنة بخصوص وضع إسعاف رهن إشارتها لم يتم نهائيا”، يضيف المتحدث ذاته.
بناء قسم بسواعد الآباء..
في تصريحه لجريدة هسبريس قال هشام زربان إن “ساكنة المدشر لها قصة فريدة مع التمدرس بعدما شمرت على سواعدها قبل سنوات وقامت ببناء أول حجرة دراسية بالمنطقة، للحد من معاناة تلاميذ الدوار الذين يقطعون مسافة طويلة من أجل متابعة دراستهم في دواوير أخرى، وهو ما تفاعلت معه المديرية وعينت أستاذا في هذه الحجرة التي بنيت بطرق بدائية، قبل أن تتدخل بعد فترة لبناء قسم بمواصفات جيدة، لكن مازال ينقصه سور، فيما المرافق الصحية وبئر بنتهما جمعية خيرية”.
أما بعد استكمال المرحلة الابتدائية، وفق المتحدث نفسه، فإن التلاميذ يجدون أنفسهم مجبرين على التنقل قصد متابعة دراستهم بكلميم أو جماعات مجاورة، كتيوغزة وغيرها، “في حين أن هناك هدرا مدرسيا مسجلا بشكل أكبر خاصة في صفوف الفتيات، إذ إن غالبية الآباء يرون صعوبة في إرسال بناتهم قصد إكمال دراستهن في مناطق بعيدة”.
مسؤولية مشتركة
اعتبر زربان أن “السبب الرئيسي والحقيقي في الوضعية التنموية المزرية التي تعيشها المنطقة منذ سنوات يكمن في غياب الإرادة الحقيقية لدى الفاعل السياسي، التي بغيابها لا يمكن تحقيق أي تقدم”، مبرزا أن “الساكنة لا تلوم بأي شكل من الأشكال المجلس الحالي لجماعة تنكرفا لأنه خلف مجلسا عمر طويلا، لكن قد تلومه بعد نهاية الولاية الحالية”.
واسترسل المتحدث موضحا: “ألوم الفاعل السياسي بالدرجة الأولى بشكل عام لأنه عجز وهو يرى منطقة في هذا المغرب الحبيب قريبة جدا من قلب الجهة مدينة كلميم وهي تفتقر إلى أبسط شروط العيش، وبدرجة ثانية ألوم الفاعل الجمعوي والمجتمع المدني لأنه يتحمل جزءا من المسؤولية، ولابد أيضا أن نوجه اللوم للمجلس الإقليمي لسيدي إفني والمجلس الجهوي كلميم وادنون، فكل هؤلاء المتدخلين يتحملون مسؤولية الوضعية المزرية لقرية دارات وافا. كما ألوم الإعلام في الجهة، فباستثناء مبادرتكم هاته في جريدة هسبريس لم يتم التطرق إلا مرات نادرة جدا لهذا الدوار”.
مطالب الساكنة
أكد رئيس جمعية دارات وفا للتنمية أن “مطالب ساكنة المنطقة واضحة وبسيطة وليست بالخيالية ولا الأسطورية، أولها ربط الدوار بالطريق المعبدة وتزويده بالكهرباء وربطه بالماء الصالح للشرب، فضلا عن بناء مستوصف والاعتناء بالفرعية المدرسية وإيجاد حل لمشكل التنقل والنقل المدرسي بالدوار، ومحاربة الهدر المدرسي”، وزاد: “نوجه مطالبنا لجميع الجهات المعنية قصد إنصاف هذا الدوار الوفي لملكه ووطنه والمتشبث بمقدساته وثوابته، والذي تؤدي ساكنته جميع واجباتها الوطنية والدستورية بدون استثناء”.
وختم زربان تصريحه لهسبريس قائلا: “مازلنا نستغرب انعدام الضروريات سالفة الذكر بالدوار في وقت التعليمات الملكية واضحة وصريحة في هذا الجانب، وتسير وفق توجه المملكة الذي يصب في إطار تنمية المغرب ككل دون أي تمييز”.
مبادرات جمعوية
عبد الفتاح لخضر، فاعل جمعوي بكلميم كان له الفضل في استفادة دارات وافا من بعض المبادرات الجمعوية، قال إنه اكتشف المنطقة صدفة بعدما تلقى طلبا من أحد سكانها لتصوير فيديو للتعريف بها وبمعاناتها، مشيرا إلى أنه تفاجأ باسم الدوار الذي لم يسمع به من قبل، ليكون الدافع وراء زيارته هو حب استكشاف مكان لم يكن يعلم بتواجده رغم أنه يقطن في مدينة كلميم التي لا تبعد عنه سوى بكيلومترات قليلة.
“بعد تنقلي للمنطقة التقيت ساكنة معزولة، عجائز وشيبا وشبابا وأطفالا..ولعل أبرز ما لفت انتباهي هو حسن أخلاق السكان واحترامهم للغير، فمازالوا متشبثين بالعادات والتقاليد القديمة، وكمثال على ذلك استقبال ضيوف القرية بالمسجد وتضامنهم في إحضار المأكل والمشرب في جو تطبعه البساطة والمحبة والأخوة، وفي مقابل ذلك وجدت دوارا بدون طريق ولا ماء، باستثناء ضفائر بها ماء ملوث وتعيش بها العقارب، وبدون كهرباء أيضا ولا شبكة الهاتف، فقط يتوفر على قسم مشترك مشيد في الخلاء بدون سياج ولا سور، وهي جميعها أمور جعلته دوارا مهمشا بكل ما تحمله الكلمة من معنى”، يضيف المتحدث ذاته.
وأوضح عبد الفتاح لخضر أن زيارته لدارات وفا تكللت بـ”قدوم جمعية we are solidarité لتفقد المنطقة والوقوف على حاجياتها، إذ قامت بحفر بئر وبناء سقاية لفائدة الحجرة المدرسية التي تم تجهيزها أيضا بمرافق صحية، وهي مجهودات مازالت مستمرة من طرف هذه الجمعية المواطنة التي أخذت على عاتقها مسؤولية تمكين ساكنة المدشر من بعض ضروريات العيش والاستقرار؛ كما قام أيضا أحد المحسنين بحفر بئر بالدوار في انتظار تجهيزه”.
ومن بين المبادرات الجمعوية أيضا التي استهدفت دوار دارات وافا، وفق المتحدث ذاته، زيارة جمعية “من أجلكم للطفولة والشباب” التي حلت مؤخرا بالمنطقة بتنسيق مع جمعية الدوار، وأشرفت على تنظيم مجموعة من الأنشطة التطوعية، من بينها صباغة وتزيين مسجد وكتاب وقسم القرية، وإنشاء مكتبة وملعب مصغر لكرة القدم، وتشجير فضاء المؤسسة، فضلا عن تسليم معدات رياضية وتنظيم ورشات ترفيهية للأطفال وتمكينهم من ملابس شتوية جديدة وملابس مستعملة وأدوات مدرسية.
كما أكد لخضر، في ختام تصريحه لهسبريس، على “ضرورة تفاعل والي جهة كلميم وادنون ورئيسة الجهة، والتدخل بشكل عاجل لإنقاذ دارات وفا من التهميش الذي يعيشه، خصوصا في الجانب المتعلق بالماء والكهرباء والطريق، على اعتبار أن ميزانية جماعة تنكرفا المحدودة لا يمكن أن تكفي لإنجاز مشاريع من هذا النوع، لكن هذا لا يعفي منتخبيها من الترافع”.
رأي المجلس الجماعي
قال محمد بنران، رئيس جماعة تنكرفا، إن “دوار دارات وفا يعاني للأسف الشديد من عدة إكراهات تتمثل بالأساس في غياب الربط بالماء والكهرباء والطرق، وهو وضع تنموي يعي المجلس وقعه على الساكنة، ومن أجل ذلك فهو منكب على إيجاد حلول مناسبة من شأنها إخراج المنطقة من التهميش الذي تعيشه”.
وأضاف المسؤول الجماعي ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس، أن “تنكرفا هي أول جماعة بإقليم سيدي إفني تصادق على برنامج عملها وضمنته عدة محاور تهم بالأساس الطرق والكهرباء والماء والصحة التي ستستهدف كافة دواوير الجماعة وعلى رأسها دارات وفا”.
وأكد الرئيس الجديد لجماعة تنكرفا أن هذه الأخيرة “مقبلة على الانخراط في برنامج تزويد العالم القروي بسيدي إفني بالماء الصالح للشرب انطلاقا من مياه البحر، وهو المشروع الذي كان موضوع زيارة قام بها مؤخرا إلى المصالح المركزية للرباط”، معتبرا أن هذا الحل هو المناسب لإنقاذ كافة دواوير الجماعة من العطش، بما فيها دارات وافا الذي أوضح أنه يستفيد من صهاريج من الجماعة حسب طلب الساكنة بثمن رمزي يعادل 200 درهم للصهريج.
أما بخصوص الكهرباء فأوضح المتحدث نفسه أن دراسة بخصوص تزويد الدوار تم إنجازها مؤخرا، كما جرى عقد لقاء بين كافة المتداخلين حول وضعية الكهرباء بكافة تراب الجماعة، بحضور ممثل المكتب الوطني الكهرباء، وتم الإلحاح على ضرورة تمكين دارات وفا من الربط الكهربائي لتعويض الألواح الشمسية.
وبخصوص الربط الطرقي قال محمد بنران إن المجلس الإقليمي مقبل على بناء طريق بين أباينو وتنكرفا، وهو المشروع الذي سيخفف من عزلة دارات وفا، وسيقلص من المسافة غير المعبدة المؤدية للدوار، التي لن تتجاوز ثلاثة كيلومترات تقريبا، سيتم العمل على تعبيدها هي الأخرى مستقبلا.
الجهة خارج التغطية
قصد استقاء رأي المجلس الجهوي لكلميم وادنون بخصوص المشاريع المبرمجة لإخراج دوار دارات وفا من العزلة التي يعيشها، تواصلت جريدة هسبريس بالرئيسة مباركة بوعيدة، التي اعتذرت عن الإدلاء بأي تصريح وأحالتنا على نائبها الأول أحمد دزيداز الذي لم نتمكن من التواصل معه رغم اتصالاتنا المتكررة وإطلاعه على هويتنا وموضوع الاتصال عبر رسالة نصية قصيرة، وعن طريق منصة التراسل الفوري “واتساب”؛ وهو الأمر الذي أبلغنا به رئيسة الجهة مجددا عبر رسالة نصية، كما حاولنا الاتصال بها لكن دون أي تفاعل يذكر.
المصدر: وكالات