قالت أنطوانيت مونسيو ساييه، نائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، إن المغرب أظهر مرونة في مواجهة عدد من الصدمات الكبيرة على مدى السنوات القليلة الماضية جعلت الاقتصاد قادرا على اجتياز مرحلة صعبة للغاية.
وذكرت ساييه، ضمن حوارها مع هسبريس، أن الاقتصاد المغربي يعاني مشاكل هيكلية يجب حلها بإصلاحات عميقة قادرة على وضع النمو على سكة مسار أكثر دينامية وشمولا، معتبرة أن النموذج التنموي الجديد يتضمن عددا من الإجراءات الجيدة التي تمكن من تحقيق هذا الهدف.
وأوضحت نائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي أن العلاقة بين هذه المؤسسة المالية الدولية والمغرب مبنية على تقديم النصائح والمشورة، وقالت إن تركيز المؤسسة ينص بالأساس على التوازنات الماكرو اقتصادية وتقديم الدعم للسلطات المغربية.
تولت أنطوانيت مونسيو ساييه مهام منصب نائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في 16 مارس 2020، وعملت قبلها في مركز التنمية العالمية، كما تولت الإشراف على علاقة صندوق النقد الدولي ببلدانه الأعضاء في إفريقيا جنوب الصحراء. وسبق لساييه أن تقلدت منصب وزيرة المالية في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع الأهلي في ليبيريا، وقال صندوق النقد الدولي في سيرة ذاتية حولها إنها “قادت بلادها نحو تسوية ديونها المتأخرة منذ وقت طويل تجاه أطراف متعددة، ووضع أول استراتيجية ليبيرية للحد من الفقر”، كما عملت ساييه في البنك الدولي لمدة 17 سنة. ساييه حاصلة على درجة البكالوريوس في الاقتصاد مع مرتبة الشرف من كلية سوارثمور ودرجة الدكتوراه في العلاقات الاقتصادية الدولية من كلية فليتشر بجامعة تافتس، وأثناء عملها في مركز التنمية العالمية كانت عضوا في مجلس مديري كلية سوارثمور ومجلس إدارة مركز الرئيسة إيلين جونسون سيرليف للمرأة والتنمية ومجلس إدارة مؤسسة “القيادات العمومية الناشئة”.
هذا نص الحوار:
كيف ينظر صندوق النقد الدولي إلى الوضع الاقتصادي الحالي في العالم؟
الوضع الاقتصادي الحالي صعب للغاية، هناك مخاطر كبيرة تهدد التعافي الاقتصادي الذي أعقب جائحة فيروس كورونا وتزيد التوترات الجيوسياسية الحالية الوضع سوءا. هذه المخاطر مع المزيد من الضغوط الحمائية تؤدي إلى قيود على التجارة الدولية التي تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي. ومن المحتمل أن نشهد تأثيرات على النظام النقدي الدولي بسبب العقوبات التي أعقبت الحرب في أوكرانيا.
يمكن للحرب في أوكرانيا أن تساهم في تقسيم دائم للاقتصاد العالمي إلى تكتلات جيوسياسية تعتمد على معايير تكنولوجية وعملات احتياطية وأنظمة دفع دولية. لقد كان التكامل الدولي في خطر حتى قبل الحرب في أوكرانيا؛ فقد أدت التوترات التجارية والتكنولوجية، لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، إلى إعاقة التجارة والاستثمار والإنتاجية.
وعلى المدى الطويل، تهدد الحرب الدائرة حاليا بتقويض الأطر المستندة على القواعد التي حكمت العلاقات الدولية لمدة سبعين عاما نتيجة تفاقم الوضع والتشتت الاقتصادي نتيجة قطع العديد من البلدان علاقاتها التجارية مع روسيا.
إذا استمرت الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة، سيزداد الوضع تدهورا، وهذا يؤثر بشكل أكبر على البلدان الفقيرة التي تحتاج إلى مزيد من الاستثمارات الموجهة لمحاربة الفقر. في هذا الصدد، نسعى في صندوق النقد الدولي إلى التركيز على احتياجات البلدان الأكثر تأثرا بالصدمات من خلال تقديم المساعدة المالية وتقديم المشورة، ونعتقد أن هذه فرصة للعالم لمواصلة دعم المؤسسات المالية الدولية لتلعب دورها كما يجب كشبكة أمان لا غنى عنها من خلال توفير السيولة الطارئة ومنع انتشار الأزمات.
إلى أي مدى يمكن أن يستمر عدم اليقين وبالتالي التأثير على التوقعات الاقتصادية؟
هذا يعتمد على المدة التي ستستغرقها الحرب، هناك الكثير من عدم اليقين في أوكرانيا وفي جميع أنحاء العالم. وهذا يؤثر على الاقتصاد العالمي، وينتج عنه ارتفاع التضخم بسبب الحرب، وما تلا ذلك من قيود على صادرات المواد الأساسية؛ على رأسها القمح، وبالتالي تهديد الأمن الغذائي في عدد من البلدان.
إذا لم يتم التوصل إلى حل سريع للحرب ستكون هناك تكاليف باهظة سواء من حيث إعادة الإعمار في أوكرانيا وتقديم المساعدة الإنسانية للاجئين وما لذلك من تأثيرات على الاقتصاد العالمي؛ لكن هناك فرصة لاحتواء كل هذا الدمار من خلال إنهاء الحرب بسرعة.
لقد أصبحت توقعات النمو أكبر خضوعا للتحيين، بحيث كانت التوقعات تشير إلى تحقيق نمو في حدود 4,4 في المائة و3,8 في المائة لسنتي 2022 و2023؛ لكن اضطررنا لخفضها إلى 3,6 في المائة للسنتين معا، وهي المرة الثانية التي يخفض فيها الصندوق توقعاتها بخصوص النمو بالنسبة لسنة 2022.
كيف ينظر الصندوق إلى المنطقة المغاربية من حيث النمو؟
تتأثر توقعات بلدان شمال إفريقيا بعدد من العوامل غير المواتية؛ مثل تداعيات الحرب في أوكرانيا، والعقوبات المطبقة على روسيا، ناهيك عن الضغوط التضخمية المتزايدة. لذلك، من المتوقع أن يتباطأ الانتعاش في المنطقة، حيث لا تمتلك البلدان المستوردة للنفط هوامش لمواجهة الصدمات السلبية. وباستثناء ليبيا ومصر، من المتوقع أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي من 4,1 في المائة سنة 2021 إلى 1,8 في المائة سنة 2022.
من المتوقع أن يظل التضخم مرتفعا عند 8,8 في المائة في سنة 2022 (باستثناء السودان) بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. ويتوقع أن تشهد البلدان المستوردة للنفط تدهورا في أرصدتها الخارجية وميزانيتها نتيجة نفقات الدعم وكلفة الديون. في المقابل، فإن الآفاق المستقبلية للبلدان المصدرة للنفط مثل الجزائر وليبيا تحسنت بشكل جيد، حيث من المتوقع أن تنتعش ميزانيتها.
ومن المرجح أن تواجه معظم دول المنطقة مشاكل في انعدام الأمن الغذائي نظرا لاعتمادها على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا. وبالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يؤدي الجفاف إلى تفاقم الوضع أكثر.
يتوقع الصندوق نموا اقتصاديا في المغرب بحوالي 1,1 في المائة، ما هي العوامل المؤثرة في هذا التوقع؟
يواجه المغرب صدمات عديدة؛ مثل الجفاف، وتداعيات الجائحة، وآثار الحرب في أوكرانيا، وما ترتب عن ذلك من زيادة في أسعار الواردات. لذلك، كان علينا مراجعة التوقعات من 3,1 في المائة في يناير الماضي إلى 1,1 في المائة كنسبة نمو متوقع خلال السنة الجارية.
تقوم السلطات المغربية ما بوسعها لاحتواء الضغوط التضخمية وضمان الانتعاش الذي كان في بداياته. وقد قامت السلطات بوضع سياسات لدعم استقرار الاقتصاد الكلي، ونحن على ثقة أن ذلك سيستمر ويحقق الهدف.
يواجه المغرب زيادة أسعار المواد الغذائية والطاقة؛ وهو ما ينتج عنه تضخم يقلل الدخل ويحد من الاستهلاك، إضافة إلى انخفاض الطلب الخارجي على المغرب خصوصا من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن تشديد الشروط المالية في الأسواق الدولية.
ما هي نقاط الضعف والقوة في الاقتصاد المغربي من وجهة نظر الصندوق؟
لقد أظهر المغرب مرونة حقيقية في مواجهة عدد من الصدمات الكبيرة على مدى السنوات القليلة الماضية (مواسم الجفاف، أزمة كورونا والآن تداعيات حرب أوكرانيا). ةتجلت هذه المرونة أساسا في حملة التطعيم الخاصة ودعم شبكات الأمان الاجتماعية وإجراءات لدعم السياسة النقدية.. كل ذلك جعل الاقتصاد المغربي قادرا على اجتياز مرحلة صعبة للغاية.
وإذا كان المغرب قد قاوم بشكل ملحوظ هذه الصدمات، إلا أن اقتصاده يعاني من مشاكل هيكلية يجب حلها بإصلاحات عميقة قادرة على وضع النمو على سكة مسار أكثر دينامية وشمولا؛ وهو ما يعمل عليه المغرب من خلال تطبيق نموذج تنموي جديد وبدء الإصلاحات التي تهم المؤسسات العمومية وتوسيع الحماية الاجتماعية وقطاعي التعليم والصحة. لذلك، نرى أن الطريق واضحة للغاية للمضي قدما لتحقيق كل الأهداف.
ما هي الحلول التي يقترحها الصندوق للحد من ظاهرة القطاع غير المهيكل؟
قمنا، مؤخرا، بإصدار دراسة حول القطاع غير المهيكل في شمال إفريقيا جاء ضمن خلاصاتها أن مستوى القطاع غير المهيكل في كل بلد مرتبط بمستوى التنمية فيه. هناك جوانب أخرى تفسر هذا المستوى، وعلى الرغم من اختلافها من بلد إلى آخر، هناك عامل مشترك واحد بينها ألا وهو جودة نظام الحكامة، ناهيك عن عدد من المعيقات القانونية المتجلية مثلا في فرض مدونة الشغل القيود على العمل بدوام جزئي. وقد لاحظنا أن مختلف العاملين في القطاع غير الرسمي من النساء يفضلن ذلك؛ لأنه يوفر إمكانية العمل بدوام جزئي للتوفيق بين الرغبة في الحصول على دخل وفي الوقت نفسه القيام بالالتزامات الأسرية في المنزل.
ولشفافية السياسات العمومية والضريبية وكيفية تنفيذها أهمية بالغة في هذا الصدد، إضافة إلى المساطر والإجراءات اللازمة لإنشاء المقاولات والنظام الضريبي الذي لا يراعي وزن المقاولة، كل ذلك يجعل التواجد في القطاع الرسمي غير جذاب ومكلف. لذلك، يجب على المغرب معالجة هذه الإشكاليات. من المؤكد أن البلد لديه القدرة لتقليل مستوى القطاع غير المهيكل من حوالي 30 في المائة إلى حوالي 20 في المائة بحلول سنة 2035.
أثير، مؤخرا، موضوع العملات المشفرة في منتدى دافوس وكان محط نقاش كبير. ما وجهة نظر الصندوق بخصوص هذا الموضوع؟
الأصول المشفرة في حد ذاتها ليست جيدة ولا سيئة، والتكنولوجيا الكامنة وراءها لديها القدرة على توفير الكفاءة في الخدمات المالية لا سيما التحويلات المالية إلى الخارج وتمويل العمليات التجارية وإصدار سندات الدين والديون.
لقد أصبحت هذه الأصول المشفرة تحتل مكانة مركزية بشكل متزايد في النظام المالي العالمي، وقد يؤدي تقلبها بشكل متزايد مقارنة بالأصول التقليدية مثل الأسهم إلى مخاطر عدم الاستقرار المالي، لا سيما في البلدان التي ينتشر فيها استخدام هذه العملات المشفرة.
يمكن أن تكون العملات المشفرة التي لا تخضع لأطر تنظيمية مناسبة محفوفة بالمخاطر وتهدد الاستقرار المالي والنظام النقدي الدولي، وهذا يؤكد الحاجة إلى تضافر جهود الدول لوضع سياسات تنظيمية واضحة ومناسبة للاستفادة من استخدام هذه العملات.
تبحث عدد من البنوك المركزية اعتماد عملة رقمية، هل تؤيدون هذا التوجه؟
نعم هناك عدد من البنوك المركزية مهتمة بالعملات الرقمية، فهي توفر فوائد يمكن أن تساعد في تحقيق الشمول المالي وتسهيل التحويلات عبر الحدود؛ وهو ما سيساهم في تحسين جوانب عدة في النظام النقدي والمالي.
هذا الاهتمام مفهوم ومهم؛ لكن يجب أن يتم التعامل مع الموضوع باهتمام كاف للانتقال إلى العملة الرقمية، وهناك حوالي 100 دولة عضو في الصندوق مهتمة بموضوع العملات الرقمية. وقد بادرت دول، مثل البهاماس ونيجيريا، إلى إطلاق بعض العملات الرقمية؛ فيما بدأت دول أخرى مثل المغرب دراسة سلبياتها وإيجابياتها.
يجب النظر إلى السلبيات والإيجابيات للمضي قدما في اعتماد عملات رقمية. ونحن مستعدون لتقديم المشورة للبلدان، ومن بينها المغرب، لوضع أطر تنظيمية مناسبة لها؛ لأن الاندفاع إليها لن يجدي نفعا ومن المفيد جدا الحذر.
العملات الرقمية للبنوك المركزية لا تخلو من مخاطر؛ لأنها تؤدي إلى سحب الوساطة من البنوك، وتؤدي إلى صعوبات قانونية، ناهيك عن المشاكل المرتبطة بسرية البيانات وتعريض سلامة النظام المالي للخطر لا سيما من خلال مخاطر للأمن السيبراني.
بخصوص التضخم، هناك رأي يقول إن الأمر سيستمر لمدة طويلة، ما هي توقعاتكم؟
نتوقع أن يظل التضخم معنا، لسوء الحظ، لفترة أطول مما كان متوقعا في السابق. ولذلك، تواجه البنوك المركزية تحديا يتمثل في العمل على احتواء التضخم من خلال الإجراءات التي يمكن اتخاذها على مستوى سعر الفائدة الرئيسي والجوانب الأخرى للسياسة النقدية.
لقد ارتفعت أسعار عدد من المواد الأولية بشكل كبير منذ جائحة كورونا؛ لكن المخاطر تهم بشكل أكبر مستوى أسعار الطاقة، نظرا لأن عمليات الإنتاج ونقل المواد الأولية يتطلب الكثير من الطاقة، ناهيك عن اضطرابات سلاسل الإمدادات. وبالنسبة للقمح والذرة فإن ذلك يتوقف على مدى قدرتنا على تفادي أي اضطرابات في صادرات روسيا وأوكرانيا.
لا يزال المغرب يتريث في المرور إلى نظام صرف أوسع لسعر عملته الوطنية الدرهم، هل تظنون أن الوقت مناسب؟
نعتقد أن هناك فوائد كثيرة يمكن أن تنتج عن اعتماد مزيد من المرونة في سعر صرف الدرهم؛ لأن ذلك سيساعد على امتصاص الصدمات الخارجية مثل التي نواجهها اليوم. لذلك، نرى أن هناك سببا وجيها لمتابعة توسيع نطاق تحرير سعر الصرف؛ وهو ما نعمل عليه إلى جانب السلطات المغربية.
علاقة صندوق النقد الدولي والمغرب دائما يربطها البعض بالإملاءات، ما طبيعة هذه العلاقة؟
لقد أقمنا شراكة جيدة للغاية مع المغرب، حيث نقدم له المشورة بهدف الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية وتعزيز الأسس لتحقيق نمو أكثر قوة وشمولية وقد فعل المغرب ما نعتقده جيدا في هذا الصدد.
لقد تعززت هذه العلاقة أيضا من خلال ما تعلمه الصندوق من المغرب، كما استفادت المملكة من الأدوات الاحترازية؛ وهو ما سهل لها الولوج إلى الأسواق، وأتاح لها تنفيذ عدد من الإصلاحات الهادفة لتحقيق التنمية.
لقد كان المغرب واضحا جدا بشأن الاتجاه الذي يريد أن يسلكه، خصوصا مع النموذج التنموي الجديد. دورنا في هذا الصدد هو الاستمرار في تقديم النصائح، ونحن في وضع يخول لنا ذلك؛ نظرا لخبرتنا في بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم.
تركيزها بالأساس هو التوازنات الماكرو اقتصادية والدروس التي يمكن تقديمها للمغرب بناء على التجارب الأخرى. كل ذلك يدخل ضمن المساعدة التقنية التي نقدمها، وهذا يصنع علاقة جيدة مثمرة للغاية بيننا.
المصدر: وكالات