بعدما أبرز معاد اليعكوبي، باحث متخصص في التاريخ المعاصر مهتم بالتاريخ الاجتماعي، كيف ميّز “الطب الكولونيالي” بين المغاربة والأوروبيين في محاربة الأوبئة إبان فترة الحماية، أشار في الحلقة الرابعة من الدراسة التي تحمل عنوان “الأمراض والأوبئة وسبل مواجهتها.. المغرب المستعمَر نموذجا” إلى أن “المغاربة اعتمدوا قبل الحماية أشكالا تقليدية في علاج الأمراض السائدة في تلك الفترة، واستمروا في تعاطيها حتى خلال فترة الاستعمار وما بعده”.
وبخصوص معتقداتهم عن الأمراض، قال معاد اليعكوبي إن جزءا كبيرا من المغاربة كانوا يعتقدون أن للأمراض أصولا سحرية أو شيطانية، أو مرتبطة بـ”العين” و”التوكال”…، ولجؤوا من أجل القضاء عليها إلى إلصاقها بالآخر، كما شاع بينهم خلال فترة الاستعمار الفرنسي “الدعاء على الآخر بالأمراض”.
وضمن الحلقة الرابعة من الدراسة، فصّل الباحث المتخصص في التاريخ المعاصر في عدد من الطرق التي اعتمدها المغاربة لمواجهة الأمراض، ذكر منها “الاستطباب بالكتابة”، و”العلاج بالحيوانات والحشرات والطيور”، و”الاستشفاء بالحامات”، و”الاستشفاء ببركة الأولياء”، و”التداوي بالكي”، و”الاستطباب بالجراحة”…
أصول سحرية وشيطانية
اعتمد المغاربة قبل فترة “الحماية” أشكالا تقليدية في علاج الأمراض السائدة في تلك الفترة واستمروا في تعاطيها حتى خلال فترة الاستعمار وما بعده؛ حيث كان يعتقد جزء كبير من المغاربة أن للأمراض أصولا سحرية أو شيطانية، حسب Legey Doctoresse، وعلى سبيل المثال، ربط سكان المرجات تفشي الحمى في صفوفهم بكائنات غير مرئية “تصيب بضرباتها كل من استحم بالمرجة أو تردد على ضفافها باستمرار”، ويشير الباحث بوجمعة رويان في هذا الإطار إلى تدخّل كائنات تنتمي إلى “العالم الخارجي”، مثل “الأجواد” و”الليما يتسماوش” و”مالين المكان”… تستقر في البرك والمياه الآسنة والمناطق المهجورة والكهوف والمزابل.
كما أن المغاربة آمنوا بـ “العين”، معتبرين إياها “حقّا” (العين حق) و”التوكال” الذي يؤدي إلى شعور مستمر بالتعب والوهن وتقشر الجلد وتساقط الشعر والنحول وتتابع نوبات القيء، “وكانت المواد السامة غالبا ما تدس في الكسكس (…) واستعملت الحريرة كذلك كمسوّغ للسم؛ إذ عثر شارنو على قطع من الزرنيخ في معدة أحدهم بعد فحص سمامي، وكان الشاي والقهوة من المشروبات الشائعة المفضلة كذلك لدس السم”.
ولجأ المغاربة أيضا من أجل القضاء على الأمراض إلى إلصاقها بالآخر؛ فعلى سبيل المثال، ساد الاعتقاد بأن التخلص من داء السيلان يتم عند اتصال جنسي مع امرأة سوداء، ينتقل إليها بعدما يتخلص منه المصاب، “وعندما يصاب شخص بالزحار أو بعسر التبول، يضع أهله بعض الأعشاب على آجرة أو قرميدة، ويتبول عليها المريض، ثم توضع عند مفترق الطرق، وينتقل الداء إلى من يضع قدمه عليها”، كما شاع بين المغاربة خلال فترة الاستعمار الفرنسي الدعاء بالأمراض، فراج القول: “الله يعطيك العمى” و”الله يعطيك الحمى” و”الله يعطيك الرمد”…
سبل مواجهة الأمراض
خلال تلك الفترة، اعتمد المغاربة على:
– الاستطباب بالكتابة: وهي عملية يقوم بها “لفـْقيه” بعدما يحصل من المريض على المعلومات المتعلقة به وبمرضه، فيكتب آيات قرآنية وجملا غير مفهومة ويرسم الجداول في حرز مربع أو مستطيل الشكل ويقدمه للمريض لارتدائه أو وضعه في الماء واحتسائه أو حرقه واستنشاق دخانه، معتمدا على مصنفات الطب القديمة، وعلى الخصوص منها كتابان (…)، هما ‘‘تذكرة أولي الألباب’’ لداود الأنطاكي، و‘‘الرحمة في الطب والحكمة’’ لجلال الدين السيوطي، وقد احترفها العديد من الدجالين والمشعوذين، مستغلين محدودية وعي أشخاص في وضعية المرض.
– العلاج بالحيوانات والحشرات والطيور: كان بعض المغاربة حين يصابون بالحمى يحرقون الصراصير ويستنشقون دخانها. وفي حالات أخرى استعملوا حشرات أخرى مثل: النحل، النمل، الجراد، الدود والعقارب… حسب أنس الصنهاجي في مقاله “الطب الكولونيالي بالمغرب: الوجه الآخر للمشروع الاستعماري”، عند الإصابة بأمراض مزمنة أكلوا السلحفاة المطبوخة مع الكسكس لعلاج مرض الزهري، واللقلاق لعلاج النوار، كما استعان المغاربة ببعض أعضاء الحيوانات، كالشحوم والأمخاخ والمرارات والأكباد والقرون، وفق ما جاء في “التطبيب والسحر في المغرب” لنادية بلحاج.
– الاستشفاء بالحامات: وهي العيون الحارة المساعدة التي كان يعتقد أنها تساعد على علاج بعض الأمراض، مثل حامة “مولاي يعقوب” التي تقع بالقرب من فاس، والتي كانت مركزا يقصده المرضى من كل المناطق لعلاج أمراض عدة، مثل الجذام، البرص، الزهري والمفاصل…، وقد دخل الطبيب وايزجيربير (Wesgerbère) إلى حامة مولاي يعقوب خفية في 1898 وأخذ بعضا من مائها لتحليله واختبار مدى صلاحيته للعلاج، وقام بعده أحد كبار الصيادلة سنة 1917، يسمى لانيو (Lagneau) بتحليل حياه الحامة، فإذا هي تحتوي على كميات كبيرة من الأملاح والكبريت.
– الاستشفاء ببركة الأولياء: كان لدى جل المغاربة اعتقاد راسخ أن “الأولياء الصالحين” يجلبون اليمن والبركات ويقضون حوائجهم ويشفونهم من الأمراض، وكانت الأضرحة من أكثر الأماكن التي يزورها المرضى وذوو العاهات، وحتى الأصحاء لطلب كسب الربح في التجارة أو البحث عن زوج أو طلب الحظ، مثل “سيدي علي بوغالب”، الذي عُرفت “بركاته” في علاج الدماميل، وضريح “مولاي بوشعيب” المشهور بعلاج انتفاخ طرفي جفن العين (الشعيرة) وأيضا مرض الكساح، حسب الكاتب إدمون دوتي.
– التداوي بالكي: كان الكي وسيلة لعلاج عرق النساء (Sciatique) والحمى وأمراض المعدة باستعمال آلات حديدية محماة بالنار، يتم وخز المريض بها في البطن أو أعلى العنق…
– الاستطباب بالجراحة: كانت عمليات الجراحة خلال هذه الفترة تقليدية، خصوصا الحجامة، حيث يقوم المعالج بشفط الدماء التي تعيق سير الدورة الدموية بواسطة “المحجبة” (قارورة من الزنك أو الزجاج أو الخشب…)، ثم “الفصد”، حيث كان يُشق العضو الملدوغ للمريض باستخدام شفرات حادة.
المصدر: وكالات