عن دار “العائدون للنشر” بالأردن، صدر للشّاذِر المغربي سعد سرحان ديوان شَذْر بعنوان “أحزان الذهب”. ولأنّ الشّذر للذهب كمثل الدّمع للحزن، فإنّ شذرات الكتاب ما إن تكرج من روح صاحبها حتى تصير إلى بلّورات تنافس بعضها، لا في الصفاء فحسب، وإنّما في الحجم أيضاً، فكلّما كانت الواحدة منها أصغر كانت أبهى.
عمل الشاعر في هذا الكتاب كعمل الصائغ تماماً: الجهد الأكبر للحِلية الأصغر، أمّا الأزاميل فلا بد أنّها من أنفاس.
ولعلّ سعد سرحان بذلك يواصل فقط ما بدأه قبل عقود بانحيازه الشعري المطلق لما قلّ وجلّ، كما نجده في “نكاية بحطّاب ما” وفي “أكثر من شمال” وسواهما ممّا نشر كتبًا أو متفرّقاً في المجلات والجرائد والمواقع.
صاحب “شكرًا لأربعاء قديم” لا يكتفي بالشعر، فهو معروف بتعاطيه للنثر أيضًا وبجرعات وافرة، ولنا فقط أن نعود إلى “اشتباكاته” المسهبة.
وكما يشبه الكرز العنب يشبه شعر سرحان نثره. ففي الشعر ينحاز إلى الوجيز، فإذا النص كقطفة كرز من حبتين أو ثلاث، أمّا في النثر فيسهب، فإذا اشتباكاته كعناقيد العنب. وفي ذلك كتب:
وفي بستان الأدبْ
أُحبُّ من الشّعر
الكرزَ
وأهوى من النثر
العنبْ.
على أنّ قارئ سعد سرحان لم يعد يُفاجَأ بالعنب في القطفة وبالكرز في العنقود، فليس أسهل عليه من وضع حبة مكان شبيهتها، هو الذي، في غير شذرة، يزجّ بحاسة مكان شقيقتها، فإذا السمع بالعين والنظر بالأذن كما في هذا النص:
ثمّة من يصيخ للبريق
وثمة من يتمعّن في الرنين
وثمة من يجمع هذا لذاك
كما لنار القِرى
يُجمع الحطبْ
وثمة من يرى
في اللّهبْ
حِلية
فهل ثمة يا ترى
من يحزن لحزن الذهبْ؟
يذكر أيضاً أنّ سعد سرحان، الذي لا يكاد يظهر في محفل أو ملمّة، ضالعٌ في أكثر من مغامرة، لعلّ أشهرها “الغارة الشعرية” التي جابت الآفاق بتكلفة تزيد قليلاً عن لا شيء، وقد كانت فور انطلاقها قاطرةً لغير قليل من الحركات الشعرية الجَنيسة.
وأمّا الغلاف فمن تصميم الفنانة لمى سخنيني، وأمّا كلمته فقد كتبها الشاعر عمر شبانة، المحرر الأول للدار، وقد جاءت كالتالي:
غاية:
لا لأجلِ الثِّمارْ
لأجلِ الطّيور
يَسقي الأشجارْ.
بمثل هذا التكثيف والانزياح عن المألوف، يختزل الشاعر سعد سرحان، في كتابه هذا، ما يفوق نظريات في الفلسفة دارت وتدور حول “الغائيّة”، وما قيل عن كون “الغاية تبرّر الوسيلة” في (الميكافيليّة). وهو يفارق الغاية و”النفعية”، ويسمو إلى الجَمال والمتعة.
وما بين الفن، بروح الشعر والنثر، وبين الفلسفة والحِكمة، يطوف بنا الشاعر في محطّات الحياة، متّكئًا على “التجربة”، حينًا، وعلى ثقافته حينًا آخر، وهي كلّها استخلاصاته وتأمّلاته الخاصّة والمميّزة، في الأحوال جميعًا.
لننظر كيف يجعل من الماء نحّاتًا، أو إزميلًا في يد النحّات: “الماءُ إزميلٌ/ انظروا/ إلى منحوتاتِه”. ونحن هنا إزاء مؤثّرات عدّة، سمعيّة وبصريّة أساسًا، لكنّها تحفر في النفس والمشاعر.
وفي ما يتعلّق بالتقاطاته من عالم الشعر، تلفت انتباهنا مرجعيّات شاعرنا المتعدّدة، ما بين التراث، وتحديدًا ما يحيل إلى القرآن، أو من الشعر العالميّ، كما في استلهام قصيدة ت. إس. إليوت “الأرض اليباب” في استدعاء شهر نيسان في قوله “شكرًا لأبريل/لأقسى الشّهور لشاعر السّنة”.
هذه نماذج تعبّر عن الرّوح التي تحكم انشغالات الشاعر، وتحيل على أسلوبه في التقاط جوهر الأشياء، وتدعونا إلى الغوص في أعماق العالم من حولنا.
المصدر: وكالات