قال إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية وتدبير الأزمات، إن “الممارسات الدولية تشير إلى أنه كلما تعقدّت الأزمات واشتدّ حرج بعض صانعي القرار أمام الرأي العام، زادت إمكانية افتعال أزمات وهمية لتصريف نظيرتها الحقيقية. وتزداد خطورة هذه الآلية مع تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة”.
ونبّه لكريني، في مقال له بعنوان “التّفاهة وتصريف الأزمات”، إلى أن “الأمر يزداد خطورة في المنطقة العربية التي تعيش مجموعة من بلدانها على إيقاع كثير من المشاكل والمعضلات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعمّقها بعض النقاشات التافهة التي يطرحها جزء من هذه الشبكات، سواء بتكريس الرداءة والسطحية، أو بإذكاء الصراعات والأحقاد والكراهية”.
هذا نص المقال:
اعتادت كثير من النظم السياسية في عدد من الدول على الاشتغال بمنطق المؤامرة والإدارة بالأزمات كسبيل لصرف نظر الرأي العام عن قضاياه الحقيقية، وللتغطية على كثير من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتخبط فيها.
وينطوي هذا الأسلوب على قدر كبير من الهدر والخطورة، بالنظر إلى كونه يقوم على الخداع والمكر، وعلى مصادرة الحقوق والحريات وإعطاء الأولوية للمصالح الشخصية على حساب تحقيق المصالح العامة. وتحفل التجارب الدولية بهذه الممارسات التي لم تستثن منها حتى الدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية.
وتشير الممارسات الدولية إلى أنه كلما تعقدّت الأزمات واشتدّ حرج بعض صانعي القرار أمام الرأي العام، زادت إمكانية افتعال أزمات وهمية لتصريف نظيرتها الحقيقية. وتزداد خطورة هذه الآلية مع تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحولت معها من آليات للتواصل إلى قنوات حقيقية للضغط وتوجيه الرأي العام، ما سمح ببروز عدد من المؤثرين الذين يحظون بمتابعات واسعة في أوساط المجتمع بكل مكوناته، وذلك من خلال ترويج محتويات فنية ورياضية وسياسية… بأشكال مبهرة، لا تخلو في جزء كبير منها من مضامين تافهة، يحركها أساسا هاجس الشهرة، والكسب السريع للمال، وكثيرا ما تمس مواضيعها بحقوق الإنسان، بل وتحرض أحيانا على العنف والكراهية، أو تسقط في نشر التفاهات والإشاعات والمعلومات الخاطئة، والجري وراء الفضائح وافتعالها.
لا يمكن إنكار الجهود التي قامت بها دول كثيرة في ضبط المجال الرقمي بشكل عام، عبر سنّ قوانين، حاولت من خلالها الموازنة بين حماية حرية التعبير التي تدعم النشر الإلكتروني بكل أشكاله، انسجاما مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، من جهة، والحرص على ضمان الأمن الرقمي، عبر مواجهة الجرائم الإلكترونية المختلفة بقدر من الصرامة، من جهة أخرى. غير أن الأمر يطرح أكثر من سؤال عندما تتورط نظم سياسية بكل ثقلها في دعم هذه الشبكات، بل وتكليفها برسائل لتسويق “إنجازاتها” ومكتسباتها الوهمية، وتصفية حساباتها مع خصومها، حيث أصبح كثير من المؤثرين يحظون باهتمام ملحوظ من قبل وسائل الإعلام الرسمي بعدد من الدول.
ويزداد الأمر خطورة في المنطقة العربية التي تعيش مجموعة من بلدانها على إيقاع كثير من المشاكل والمعضلات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعمّقها بعض النقاشات التافهة التي يطرحها جزء من هذه الشبكات، سواء بتكريس الرداءة والسطحية، أو بإذكاء الصراعات والأحقاد والكراهية بين شعوب يجمعها مشترك حضاري تاريخي، أو عبر الاشتغال بمنطق إثارة الفضائح والسجالات المبتذلة، بدل إرساء نقاشات بناءة.
إن الاهتمام والتشجيع اللذين يحظى بهما رواد ترويج هذه التفاهات غالبا ما يقابلهما تهميش وتقليل من شأن أدوار النخب المثقفة داخل المجتمع، بصور مباشرة أو غير مباشرة، فيما يتحمّل عدد من المثقفين مسؤولية الانزواء والنأي عن مواكبة الشأن العام بالتحليل والنقد بسبل مبسطة.
لا يخلو الترويج للتفاهة من خطورة حقيقة تطال المجتمع والدولة معا، فكثيرا ما يتم الترويج لعدد من المضامين السطحية وتحويلها إلى قضايا رأي عام، على حساب ملفات هامة وحارقة تؤرق بال فئات واسعة من المجتمع، ما يشكل هدرا للطاقات والفرص، وانحرافا بالنقاشات العمومية، كما أن هذا الترويج غالبا ما يوازيه أيضا تغييب ملحوظ لأدوار عدد من القنوات الوسيطة داخل المجتمع التي يفترض أن تحظى بمهام وبمسؤوليات سياسية واجتماعية وثقافية وتعليمية، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب السياسية والنقابات، والإعلام المهني، وهيئات المجتمع المدني، ومختلف المؤسسات التعليمية، باعتبارها صمام أمان داخل المجتمعات، ما يمثّل (التغييب) خطرا حقيقيا يتهدد السلم الاجتماعي، واستقرار وتوازن الدول.
فيما تبرز كثير من الوقائع والأحداث الدولية أن حبل الكذب يظل قصيرا، فالمبالغة في الترويج لمنجزات داخلية وخارجية للاتحاد السوفييتي سابقا، لم تحل دون انهياره بشكل فجائي، كما أن التسويق لقدرات وهمية لعدد من النظم في المنطقة العربية التي تورطت في معارك خارجية كبرى، لم يحل دون رحيلها بشكل مهين، تحت ضغط محكّ الواقع الذي كشف زيف شعارات تحيل إلى “قوة” لا تستند إلى مقومات داخلية تدعمها.
أخيرا، يمكن القول إن مراهنة بعض النظم على هذه القنوات لتصريف أزماتها، هو خيار فاشل، بل هو مغامرة غير محسوبة، ذلك أن التفاهة منفلتة تتحكم فيها اعتبارات مزاجية آنية ليس لها قرار ولا موقف. ومن ثم، فكسب رهانات التنمية والممارسة الديمقراطية، لا يمكن أن يتأتى إلا بفتح المجال أمام النخب الحقيقية لإرساء نقاشات بنّاءة، وأمام القنوات والمؤسسات الوسيطة، للاستئثار بأدوارها ومسؤولياتها المجتمعية في إطار من الحرية.
المصدر: وكالات